القدس قضيتنا الأولى منذ البداية وبالتالي فلا يمكن أن يمر علينا ما يحدث في اسرائيل من تمرد ليهود الفلاشا الذين جاءت بهم إسرائيل من أثيوبيا في تسعينيات القرن الماضي، ومازالت تسعى إلى استكمال ترحيلهم ،دون أن نرصد أسبابه وتداعياته، في ظل انحياز إعلامي وسياسي غربي لحكومة نتنياهو، وتبرير وسائل إعلام إسرائيلية للقمع الذي مورس على الفلاشا ، وثمة عامل مهم كذلك هو ظهور نساء الفلاشا في قلب التمرد ضد الحكومة الإسرائيلية.
مات سلمون، لم يكتب له أن يرى عقد عمره الثالث، وثار لمقتله فصيل أجج النار في إسرائيل المتهمة بممارسة «التمييز العنصري النظامي الممنهج»ليس ضد يهود الفلاشا وحسب ، وإنما ضد اليهود الشرقيين وغيرهم من الطوائف والفصائل الأخرى.
نسرد الحكاية–أو ما ورد عنها،بجذورها وتغطيتها، حتى وقت كتابة هذه السطور،وحتى نشهد فصولها القادمة والتي لاتزال تكتب بسطور من دم وألاعيب سياسية حتى الآن.
في أحد أحياء مدينة حيفا، وتحت أشعة شمس صيف حارقة، كان الشرق الأوسط على موعد مع أحداث أثارت الدنيا ولم تقعدها في تل أبيب، والتي أصبحت محور متابعة العالم كله بشكل عام منذ ذلك الحين.
كان الشاب سلمون تاكا، البالغ من العمر بالكاد 19 عاما ذو البشرة السمراء المميزة لجذوره الإثيوبية، والذي ينتمي ليهود الفلاشا الوافدين إلى إسرائيل من إثيوبيا، برفقة مجموعة من الأصدقاء عندما التقاه ضابط احتياطي إسرائيلي خارج العمل، فأرداه قتيلا بسلاحه.
ما الذي حدث؟ هنا تختلف الروايات بين القاتل الذي يؤكد أن الشجار بين القتيل وآخرين جذب انتباهه وعندما شعر بتهديد لحياته بسبب إلقاء الحجارة عليه أقدم على القتل، وبين رواية أهل القتيل والمتظاهرين من ورائهم، أن الضابط قتل الشاب بدم بارد أو وجود ما يبرر، وأن الأمر مدفوع بخلفية تموج بالعنصرية والكراهية.
نار واشتعلت
الحدث كان يوم الأحد 30 يونيو، ومنذ ذلك الحين وإسرائيل تشتعل في مظاهرات دامية، ليس في حيفا فحسب وإنما امتدت لتسري كالنار في الهشيم في بئر سبع، ونتيفوت، وعسقلان، وأشدود، ورحوفوت، وكريات عيكراون، وريشون ليتسيون، وقيصريا، وحيفا، وكريات حاييم وغيرها من المدن والبلدات الإسرائيلية،والمدهش هو ظهور نساء الفلاشا في قلب التمرد حيث تفاعلن مع الأحداث وشاركن في التظاهرات.
العنف المفرط والذي سجلته الكاميرات كان سيد الموقف ما بين تخريب وشغب وقطع للطرق من قبل المتظاهرين حتى شلت الحياة في عدد كبير من المناطق، وبين شرطة مارست سحل وضرب واعتقال وإطلاق غاز مسيل للدموع– وبطبيعة الحال كان الشق الأكبر من العنف من قبل الطرف الثاني، الممتلك للقوة والسطوة.
ورغم أن وسائل الإعلام الإسرائيلية أذاعت بيانا لأسرة القتيل تطلب فيه التظاهر السلمي ووقف التخريب، ثم إيقاف التظاهر برمته سبعة أيام وفقا للطقوس الدينية اليهودية، إلا أن النار ظلت مشتعلة في الشوارع والميادين بدون بادرة تهدئة حتى كتابة هذا التقرير، حيث رددوا شعار «حياة السود مهمة» (Blacklivesmatter) الذي رفعه المحتجون ضد العنصرية في الولايات المتحدة، وللعجيب أنهم أيضا أحيانا رددوا الشهادتين أو عبارة «الله أكبر» كنوع من النكاية والاستفزاز للشرطة.
تعرف أكثر على الفلاشا
الفلاشا هم ببساطة اليهود من أصل إثيوبي. والطريف أن إسرائيل كانت– لاعتبارات ديموجرافية وسياسية- بالغة الحرص على نقلهم من إثيوبيا لإسرائيل في التسعينيات من القرن الماضي، وهي عملية نظمتها ونفذها الموساد بشكل علني في ذلك الحين.
وتتزايد الروايات حول جذور اليهود الإثيوبيين الذين يسمون أنفسهم (بيت إسرائيل) ويقولون إن أصولهم ترجع إلى النبي سليمان وملكة سبأ بلقيس.
ويختلف اليهود من الأصل الإثيوبي عن بقية اليهود في العالم من عدة نواح، فالجناح الإثيوبي من الديانة اليهودية أحد أقدم فروع اليهودية.
سلسلة من المعاناة
ووفقا لتقرير مكتب الإحصاء المركزي في إسرائيل عام 2017، يبدو واضحا أن الحياة بالنسبة للفلاشا البالغ عددهم 140 ألفا في إسرائيل أي حوالي 2% من التعداد هي حياة بؤس ومعاناة،لا يتزوجون إلا من بينهم بنسبة 88 % ولا يقدم على الجامعات منهم سوى 39 %، يقل متوسط دخلهم بـ35 % على الأقل بالمقارنة بغيرهم، حيث يمارس أغلبهم أعمالا منخفضة الأجور لا تحتاج إلى تأهيل علمي، مثل النظافة وقطاع الأغذية.
ويعتبر أبناء الجالية أن الإسرائيليين لايزالون ينظرون إلى المهاجرين الإثيوبيين نظرة فوقية لدواع شتى، أحدها لون البشرة.
ويتهم الإثيوبيون الإسرائيليين «البيض» بممارسة «التمييز العنصري النظامي الممنهج» بحقهم وحرمانهم من حقوقهم الشرعية رغم أن إسرائيل تقدم نفسها أنها تسترشد بقيم الديقراطية والتعددية والمساواة.
التغطية الغربية
كان من الطبيعي أن نجد في الصحافة الإسرائيلية شيئا من التحيز ضد المتظاهرين، فكتبت عن زعم وزير الأمن الداخلي بالحكومة الإسرائيلية جلعاد أردان، أن كيانات «متطرفة» حاولت «تسلق» تظاهرات الجالية الإثيوبية في إسرائيل، من أجل إشعال الأوضاع الداخلية في البلاد، مضيفا أن هذه الكيانات سعت لتحقيق أهداف سياسية عبر تحريض المتظاهرين على الاتجاه نحو أعمال العنف.
وبعيدا عن الصحافة العربية والإقليمية، حاولت منافذ الصحافة الغربية الأمريكية المختلفة، بيمينها المتمثل مثلا في التايمز وشبكات سكاي، وبيسارها المتمثل في الواشنطن بوست والسي إن إن وغيرهما، ما يمكن أن نصفه بأنه إمساك العصا من المنتصف بحيث نلمح شيئا من الحياد مع ملمح من البيانات الرسمية، وعبارات على لسان المسئولين والمتظاهرين ونبذة من التاريخ.
في أوروبا لم يختلف الحال كثيرا. البي بي سي البريطانية كتبت أنها ليست المرة الأولى، وأن الحادثة تأتي بعد حادثة تيكا أي بعد 6 أشهر من مقتل يهودا بيادغا وهو شاب إسرائيلي من أصل إثيوبي، يبلغ من العمر 24 عاما، وكان يعاني مرضا عقليا، وقد قتلته الشرطة بإطلاق النار عليه بعد أن هدد ضابطا بسكين حسب قول الشرطة وقد أدى مقتله لاندلاع مظاهرات في تل أبيب.
وأشارت إلى أن نحو 4 سنوات مرت على تقرير إيمي بالمور المديرة العامة بوزارة العدل الإسرائيلية، وهو التقرير الذي طالب بإجراء إصلاحات رئيسية في أحوال الإسرائيليين من أصول إثيوبية.
وكتبت رويترز أن الإثيوبيين يرون أن الشرطة تتعامل معهم بالعنف التعسفي وتستخدم القوة المفرطة ضدهم.
وأضافت أن الإثيوبيين يعانون من التفرقة العنصرية في التعاملات اليومية، مشيرين إلى أن العنصرية والتمييز يعيقان تطور مجتمعهم ككل، ويبقيانهم عند مستوى اجتماعي اقتصادي منخفض.
وقال أحد المتظاهرين: «نخشى من أن حياتنا لا تساوي شيئا، يخشى الشباب من التقاء الشرطة في الشارع. نواجه العنصرية يوميا، لا يوظفون الإثيوبيين ولا يؤجرونهم المنازل، ولا يُسمح لهم بدخول الحانات خلال عطلات نهاية الأسبوع».
أما في ألمانيا حيث لايزال هاجس النازية وعقدة الذنب يسيطران على الأذهان، رصدت وسائل الإعلام الألمانية احتجاجات يهود الفلاشا في إسرائيل على نحو متفاوت، فقد اعتمدت التقارير المصورة على الواقع ونقلت عن المتظاهرين، وذلك مثلما فعلت قناة «شبكة تلفزيون آر تي إل» والذي حمل تقريرها عنوان: «المحتجون اليهود ذوو الأصول الأثيوبية: هل نحن مواطنون إسرائيليون من الدرجة الثانية؟». وذكر التقرير أن الشباب السود في إسرائيل عمومًا يعانون التمييز في المعاملة والتوظيف، وأن هذه المشكلة متجذرة في المجتمع الإسرائيلي.
كذلك الأمر بالنسبة للتقرير المصور لقناة «إيه إر تي إي» الألمانية، والذي جاء بعنوان: «في إسرائيل: اليهود الأثيوبيون يتظاهرون»، حيث سلّط الضوء على مشاكل الأثيوبيين هناك، وعرض جانبًا من عزاء الشاب الأثيوبي المقتول على يد رجال الشرطة، وذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يُقتل فيها شاب على يد رجال الشرطة.
وفي ظل هذه الاحتجاجات وفي محاولة من الحكومة الإسرائيلية لامتصاص الغضب، حطت بمطار بن غوريون في تل أبيب طائرة على متنها 602 إثيوبي من أصل 1000 كان من المفروض أن يتم استقدامهم من أديس أبابا، بحسب تعهدات حكومة نتنياهو التي أعدت خطة لاستقدام آخر 8 آلاف يهودي مازالوا موجودين في إثيوبيا.
فهل سيتم احتواء الأمر وتكريسه سياسيا؟ أم أنه سيكون مسمارا في نعش مجتمع إسرائيل العنصري المهدد بالانفجار؟ هذا ما ستسفر عنه الأيام المقبلة.