بين تربية الماضي التي امتازت بجمالها ورونقها في كافة جوانبها وتربية الحاضر المعقدة والمتشابكة، لارتباطها بالتطور التكنولوجي، نجد فارقًا كبيرًا في الأساليب والأدوات المستخدمة، ففي الماضي، كانت التنشئة تتمحور حول القيم والعلاقات الوثيقة بين الأهل والأبناء، فى ظل الأسرة الممتدة، وكان العالم أكثر ارتباطًا بالواقع المباشر، مما أسهم في تربية الأطفال بروحانية واهتمام متوازن.
اليوم، ومع الثورة التكنولوجية التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، أصبح التواصل متاحًا في أي وقت، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو التقنيات الحديثة، التي تحمل بين طياتها كلًا من الإيجابيات والسلبيات، هذا الانفتاح السريع شكل عقول الأجيال الجديدة، وجعلهم ينضجون قبل أوانهم، مما أثر بشكل كبير على نمط التنشئة، فما مدى تأثير هذه التغيرات على تربية الأبناء؟ وكيف تغيرت أساليب التربية بين الماضي والحاضر؟ هذه الأسئلة تفتح أمامنا آفاقًا لفهم كيف تطور دور الأم في تشكيل القيم والنمو النفسي للأطفال في ظل هذا التحول السريع.
تفكك الروابط الأسرية
التربية اليوم تواجه العديد من الصعوبات والمشكلات نتيجة الانفلات الاجتماعي الناجم عن الاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا وسوء إدارة الأسرة وإهمالها من قبل الأبوين، فالدور الذي يلعبه الكثير من الآباء يظل ضعيفًا، فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وانشغالهم بتوفير النفقات الخاصة بالأسرة، لذلك أصبح دورهم مقصورا علي تقديم خدمات فندقية فقط من دون الاهتمام بالجانب الروحي للطفل، هذا ما تراه الدكتورة أمل رضوان، أستاذة الصحة الاجتماعية، التي تشير إلى أن غياب الترابط الروحي والنفسي بين الأبوين والأبناء سبب رئيسي في تفكك الروابط الأسرية، وتضيف: في الماضي، كان الأطفال يمارسون ألعابًا بسيطة مثل كرة القدم أو السباحة، وكان العالم أقل تعقيدًا مما هو عليه اليوم بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، لم تكن التربية في ذلك الوقت تحتوي على عوامل قد تسهم في انحراف الأبناء، فكان التليفزيون والإذاعة والكتاب العناصر الرئيسية المؤثرة في السلوك والأخلاق، وعلى الرغم من نقص التكنولوجيا في الماضي، فإن التقدم الحاصل في حاضرنا له مشكلاته أيضًا، فهو يفتقر إلى الرقابة، ويستخدمه الجميع، الكبار والصغار، مما يؤدي إلى بث أفكار مغلوطة وثقافات غريبة تؤثر على قيمنا التي تربينا عليها، مما يتطلب وعيًا ومعرفة من الكبار قبل الصغار.
العالم قرية صغيرة
وتكمل: الانفتاح الثقافي والمعرفي الحالي سلاح ذو حدين، فقد أدى إلى نضوج الأبناء قبل أوانهم، ولكنه في الوقت ذاته سبب في ظهور مخاوف من تأثيره على طريقة تفكيرهم ومعتقداتهم، حيث تأثروا بشكل كبير بالعالم المحيط بهم، وأصبح الشباب اليوم، الذي لا يستطيع السفر فعليًا، قادرًا على السفر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما جعل العالم يبدو وكأنه قرية صغيرة، لذلك من الضروري أن يبذل الأهل جهودًا أكبر في تربية أبنائهم لضمان الحفاظ عليهم، وغرس القيم الأخلاقية في نفوسهم منذ الصغر.
يحتاج الآباء والأمهات إلى التعاون والتكاتف من أجل النهوض بالأسرة والوصول بها إلى بر الأمان، مع توخي الحذر الشديد لحماية أبنائهم من الانزلاق نحو الطريق الخطأ، كما تقول الدكتورة أمل رضوان: إن الآداب يمكن أن تتغير مع مرور الزمن، مثل الملابس، وأسلوب الأكل، والتعاملات، وكلها تشكل أسلوب حياة، وفي ظل هذا الوضع، من الضروري أن نسير مع عجلة التطور، لكن مع الحفاظ على هويتنا الثقافية والاجتماعية، وعدم السماح لأي مؤثر خارجي باللعب فيها.
قوانين محددة
ومن المهم أن يطور الأبوان مهاراتهما التربوية وفقًا لهذا التغير المستمر، وأن يضعا قوانين واضحة ومحددة للمنزل يمكن تطبيقها من قبل الأبناء بشكل عملي، مع الحرص على ألا تُنسى هذه القوانين، ويجب أن تتم المعاملة بحزم وبلا تراخ، مع التزام الوالدين بتلك القوانين أولاً، حيث لا يمكننا مطالبة الأطفال بالالتزام بشيء لا نلتزم به نحن الكبار، فالأطفال يتأثرون بشكل أكبر بما يشاهدونه من أفعال الوالدين قبل أن يتأثروا بما يسمعونه.
ومن الضروري أن تكون هناك مرونة في التعامل مع الأخطاء البسيطة للأبناء، وذلك من أجل تعليمهم قيمة التسامح، أما بالنسبة لاستخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فيجب أن نضع قواعد واضحة لهذا الاستخدام، مثل تحديد أوقات معينة لاستخدام الشبكة، وإيقافها في وقت محدد ومناسب قبل النوم.
الجانب المادى
نحن نعيش في زمن يختلف تمامًا عن الأزمنة الماضية، حيث أصبحت التربية عملية تعليمية تهدف إلى توجيه الأطفال والشباب نحو تحقيق النمو الشخصي والاجتماعي، وتعليمهم القيم والمبادئ التي توجههم في مسار حياتهم. وهذا ما تراه الدكتورة منال عمران، أستاذة طب الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الجنائية، التي تشير إلى أن الأسر في الماضي كانت تركز في تربيتها على تعليم القيم والمبادئ الأخلاقية مثل الحب، الاحترام، الصدق، والعدل. وكانت العلاقات العائلية والاجتماعية تحتل مكانة كبيرة في هذه التربية، حيث كانت تعلم الأطفال كيفية التعامل مع الآخرين وبناء علاقات صحية.
ولكن مع مرور الوقت، فقدنا هذه المبادئ بسبب التغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع، مما أدى إلى تحول في قيم التربية الحديثة التي أصبحت تركز بشكل أكبر على الجانب المادي والمعرفي، وأقل اهتمامًا بالجوانب الخلقية والروحية التي كانت أساس التربية قبل أربعين عامًا.
ظواهر سلبية
التربية الحديثة افتقدت الكثير من القيم والمبادئ الأخلاقية التي كانت تشكل اللبنة الأساسية للتنشئة الاجتماعية، وأصبحنا نشهد ظواهر سلبية مثل الجرائم بين الشباب والأطفال، والتي تُعزز العنف والعدوانية. ربما يعود هذا إلى زيادة التفكك العائلي، والتفرقة والتمييز الاجتماعي، والفقر، وكذلك ضعف التعليم.
ومن هنا، يتعين علينا تعزيز دور الأسرة في التربية، والعمل على تعزيز التعليم الخلقي في المدارس، كما يجب أن يلعب الإعلام دورًا كبيرًا في الترويج للقيم والمبادئ الأخلاقية، وتشجيع القراءة التي افتقدها هذا الجيل، بالإضافة إلى ضرورة توفير قدوات ونماذج حية ليتمكن الشباب من التعلم من تجارب الآخرين وإعادة بناء الأسس القيمية التي تسهم في بناء مجتمع متوازن ومستقر.