الإنسانية ممكنة
الإنسانية ممكنة
1 أكتوبر 2024

بقلم : محمد فاروق

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أننا‭ ‬نحلم‭ ‬جميعا‭ ‬بإنسانية‭ ‬متزنة‭.. ‬متحضرة‭..‬راقية‭.. ‬تشجعنا‭ ‬على‭ ‬تخطى‭ ‬العقبات‭ ‬للانطلاق‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭ ‬والبناء‭ ‬والاستمرار‭ ‬والتطور،‭ ‬نحلم‭ ‬بأن‭ ‬تسود‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنص‭ ‬عليها‭ ‬القوانين‭ ‬لكنها‭ ‬تتبلور‭ ‬مع‭ ‬التجارب‭ ‬والخبرات‭ ‬والتعاملات‭ ‬المختلفة‭ ‬بين‭ ‬الأفراد،‭ ‬وهى‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬استقرار‭ ‬العلاقات‭ ‬و‭ ‬سموها،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يجبرك‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬والعطاء‭ ‬أو‭ ‬التعايش‭ ‬والصبر‭ ‬والعدالة‭ ‬والحماس،‭ ‬فهي‭ ‬قيم‭ ‬ترتقى‭ ‬بإنسانيتك‭ ‬وتدفعك‭ ‬دفعاً‭ ‬لتكون‭ ‬إنسانا‭ ‬يستمتع‭ ‬بالحياة‭ ‬ويطمع‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬تعاملاته‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يمنعهم‭ ‬أحد‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬الأنانية‭ ‬أو‭ ‬النرجسية‭ ‬أو‭ ‬العصبية‭ ‬أو‭ ‬الخوف‭ ‬والتردد،‭ ‬لأنهم‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬بشر‭ ‬يحصدون‭ ‬قيمهم‭ ‬من‭ ‬تجاربهم‭ ‬بنسب‭ ‬مختلفة‭ ‬وإلا‭ ‬سوف‭ ‬نتحول‭ ‬إلى‭ ‬ملائكة‭ ‬او‭ ‬حتى‭ ‬شياطين‭.‬

الإنسان‭.. ‬بكل‭ ‬متناقضاته‭ ‬وأسرار‭ ‬اختلافه‭ ‬بالعقل‭ ‬والأخلاق‭ ‬والأخطاء‭ ‬والخبرات‭.. ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬يكتشف‭ ‬أنه‭ ‬تأخر‭ ‬عن‭ ‬موعد‭ ‬مهم‭ ‬ليساعد‭ ‬شخصا‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬ولم‭ ‬يقابله‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬العام،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬أحد‭ ‬ذلك‭ ‬بل‭ ‬ويشعره‭ ‬ذلك‭ ‬بالسعادة‭.‬

تلك‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬نتمسك‭ ‬بها‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬نشاركك‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬الخاصة‭ ‬لتتأكد‭ ‬أن‭ ‬الإنسانية‭ ‬‮«‬لسه‭ ‬ممكنة‮»‬‭.. ‬ وستظل‭.‬


الحب لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬واسطة

ربما‭ ‬يعد‭ ‬الحب‭ ‬من‭ ‬أسمى‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬وأكثرها‭ ‬شمولا‭ ‬وعموما،‭ ‬إذ‭ ‬يحتضن‭ ‬عديد‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬السامية‭ ‬تحت‭ ‬مظلته،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬نجاوز‭ ‬القصد‭ ‬إن‭ ‬جزمنا‭ ‬أنه‭ ‬أصل‭ ‬من‭ ‬أصولها،‭ ‬والمشرب‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬يرتوي‭ ‬منه‭ ‬كل‭ ‬مُتطلع‭ ‬للتحلي‭ ‬بالأسمى‭ ‬منها،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تُميز‭ ‬البشر‭ ‬عما‭ ‬دونهم، ‬ورغم‭ ‬تشعب‭ ‬دروب‭ ‬الحُب،‭ ‬وتعدد‭ ‬غاياته،‭ ‬يعنُّ‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نعرض‭ ‬لدرب‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬دروبه،‭ ‬وهو‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة‭.‬

ترك‭ ‬العرب‭ ‬القدامى‭ ‬تراثًا‭ ‬عشقيًّا‭ ‬وغزليًّا‭ ‬لا‭ ‬نظيرَ‭ ‬له‭ ‬بين‭ ‬الأمم،‭ ‬ورأينا‭ ‬شعراء‭ ‬قد‭ ‬التزموا‭ ‬شعرَ‭ ‬الغزل‭ ‬فقط‭ ‬طوال‭ ‬حياتهم‭ ‬القصيرة‭ ‬أو‭ ‬الطويلة،‭ ‬ورأينا‭ ‬أنَّ‭ ‬كُتب‭ ‬العشق‭ ‬يكتبها‭ ‬فقهاء،‭ ‬وأئمة،‭ ‬وقُضاة‭ ‬شرعيون،‭ ‬وعلماء،‭ ‬وأصحاب‭ ‬مذاهب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسبَّهُم‭ ‬أحد،‭ ‬أو‭ ‬يحقد‭ ‬عليهم‭ ‬حاقدٌ،‭ ‬أو‭ ‬يشتمهم‭ ‬شاتم،‭ ‬وهم‭ ‬بما‭ ‬كتبوا‭ ‬كانوا‭ ‬أكثر‭ ‬علمًا‭ ‬وفهمًا‭ ‬ووعيًا‭ ‬وثقافةً‭ ‬وسماحةً‭ ‬ونورًا‭ ‬ممَّن‭ ‬يشتغلون‭ ‬بالدين‭ ‬في‭ ‬زماننا،‭ ‬وليس‭ ‬لهم‭ ‬نتاج‭ ‬فكري‭ ‬أو‭ ‬فلسفي‭ ‬أو‭ ‬فقهي‭ ‬أو‭ ‬عشقي،‭ ‬لأن‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬إنْ‭ ‬لم‭ ‬تكُن‭ ‬مُهيأة‭ ‬للحُب،‭ ‬فلن‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬طبيعية‭  ‬في‭ ‬محبَّتها‭ ‬لخالقها‭.‬

من‭ ‬المدهش‭ ‬أن‭ ‬المحبَّة‭ ‬بين‭ ‬رجلٍ‭ ‬وامرأة‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬واسطة،‭ ‬حيث‭ ‬القلبان‭ ‬هما‭ ‬اللذان‭ ‬يأتلفان‭ ‬ويتحدان،‭ ‬وأيضًا‭ ‬في‭ ‬الحُب‭ ‬الإلهي‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬العبد‭ ‬إلى‭ ‬واسطة‭ ‬مع‭ ‬رب‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض‭.‬

‬فعند‭ ‬إخوان‭ ‬الصفا‭ ‬أنَّ‭ ‬‮«‬مبدأ‭ ‬العشق‭ ‬أوله‭ ‬نظرةٌ‭ ‬أو‭ ‬التفاتٌ‭ ‬نحو‭ ‬شخصٍ‭ ‬من‭ ‬الأشخاص،‭ ‬فيكون‭ ‬مثلها‭ ‬كمثل‭ ‬حبَّةٍ‭ ‬زُرِعت،‭ ‬أو‭ ‬غُصن‭ ‬غُرِس،‭ ‬أو‭ ‬نطفة‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬رحم‭ ‬بشرٍ‭ ،‬وتكون‭ ‬بقية‭ ‬النظرات‭ ‬واللحظات‭ ‬بمنزلة‭ ‬مادةٍ‭ ‬تنصبُّ‭ ‬إلى‭ ‬هناك،‭ ‬وتنشأ‭ ‬وتنمو‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬الأيام‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصيرَ‭ ‬شجرةً‭ ‬أو‭ ‬جنينًا،‭ ‬وذلك‭ ‬أن‭ ‬هِمّة‭ ‬العاشق‭ ‬ومُناه،‭ ‬هما‭ ‬الدنو‭ ‬والقُرب‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص،‭ ‬فإذا‭ ‬اتفق‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬وسهل‭ ‬تمنَّى‭ ‬الخلوة‭ ‬والمجاورة،‭ ‬فإذا‭ ‬سهل‭ ‬ذلك‭ ‬تمنَّى‭ ‬المُعانقة‭ ‬والقُبلة‭. ‬فإذا‭ ‬سهل‭ ‬تمنَّى‭ ‬الدخُول‭ ‬في‭ ‬ثوبٍ‭ ‬واحدٍ،‭ ‬والالتزام‭ ‬بجميع‭ ‬الجوارح‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يُمكن‭. ‬ومع‭ ‬هذه‭ ‬كلّها‭ ‬الشوق‭ ‬بحاله‭ ‬لا‭ ‬ينقصُ‭ ‬شيئًا‭ ‬بل‭ ‬يزداد‭ ‬وينمُو»‬‭.‬

أردتُ‭ ‬أن‭ ‬تتعلَّق‭ ‬الأرواح‭ ‬ببعضها‭ ‬وتأتلف،‭ ‬كي‭ ‬يتأسَّس‭ ‬مجتمعٌ‭ ‬قائمٌ‭ ‬على‭ ‬الحُب‭ ‬والائتلاف‭ ‬لا‭ ‬الخلاف،‭ ‬على‭ ‬العشق‭ -‬وهو‭ ‬عندي‭ ‬عشقٌ‭ ‬رُوحيٌّ‭ ‬وإلهيٌّ‭ ‬مقدَّسٌ،‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬فيه‭ ‬فيوض‭ ‬الجسد‭ ‬ومعارجه‭- ‬لا‭ ‬على‭ ‬الشِّقاق‭ ‬والحقد‭ ‬والحسد،‭ ‬بحيث‭ ‬يصير‭ ‬المُحبُّ‭ ‬في‭ ‬هواه‭ ‬ما‭ ‬عاش،‭ ‬عشق‭ ‬يتجنَّب‭ ‬الخيانة‭ ‬والغدر‭ ‬والفِراق،‭ ‬ومثلبة‭ ‬التعدُّد،‭ ‬والملل‭ ‬والتغيُّر،‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬الوفاء‭ ‬والإخلاص،‭ ‬وهو‭ ‬هنا‭ ‬عشقٌ‭ ‬يعتمد‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬جوهر‭ ‬النفس،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬‮ «‬زينة‭ ‬الأجسام‭ ‬ومحاسنها‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬الأجسام‭ ‬تتبدَّل‭ ‬وتتغيَّر،‭  ‬والجوهر‭ ‬كما‭ ‬نعرف‭ ‬أزليٌّ‭ ‬ولا‭ ‬يتغيَّر‭.‬

وهنا‭ ‬أطلبُ‭ ‬عشقًا‭ ‬بين‭ ‬المُحبين،‭ ‬سمتُهُ‭ ‬التوحُّد‭ ‬والامتزاج‭ ‬والحلول‭ ‬الرُّوحي‭ ‬والاتحاد‭ ‬الجسدي،‭ ‬والوصل‭ ‬غير‭ ‬المنقطع‭ ‬والديمُومة،‭ ‬بحيث‭ ‬نصيرُ‭ ‬قومًا‭ ‬يكثُرُ‭ ‬فيه‭ ‬العاشقون‭ ‬لا‭ ‬الحاقدون‭ ‬الكارهون‭ ‬الحاسدون‭ ‬المُبغِضُون‭ ‬الأشرار،‭ ‬وأحب‭ ‬عندما‭ ‬يسألني‭ ‬أحدٌ،‭ ‬وأنا‭ ‬على‭ ‬سفرٍ،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أنت؟‭  ‬فأجيبه‭: ‬أنا‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬العربية،‭ ‬‮ «‬أنا‭ ‬من‭ ‬قومٍ‭ ‬إذا‭ ‬أحبُّوا‭ ‬ماتُوا،‭ ‬لأنَّ‭ ‬فينا‭ ‬جمالا‭ ‬ورِقَّةً‮»‬،‭ ‬مردِّدًا‭ ‬قول‭ ‬الأعرابي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬عُذرة‭ )‬وهي‭  ‬قبيلةٌ‭ ‬حميريةٌ‭ ‬كانت‭ ‬تقطن‭ ‬وادي‭ ‬القرى‭ ‬،‭( ‬قوم‭ ‬يقتلهم‭ ‬الهوى،‭ ‬ويتخذون‭ ‬العشق‭ ‬مذهبًا،‭ ‬ولا‭ ‬يفري‭ ‬الحقد‭ ‬أكبادهم،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬لأقوامٍ‭ ‬أن‭ ‬تحبَّ‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬عاطفتها‭ ‬الدينية‭ ‬شديدةً‭ ‬وسليمةً،‭ ‬ولديها‭ ‬نقاءُ‭ ‬إيمانٍ،‭ ‬وصفاءُ‭ ‬سريرةٍ‭. ‬

ومن‭ ‬صفات‭ ‬المُحب‭ ‬أنه‭ ‬يعيش‭ ‬بلا‭ ‬تعصُّبٍ‭ ‬ولا‭ ‬عُنصرية،‭ ‬لأنه‭ ‬يحيا‭ ‬على‭ ‬الرحمة‭ ‬والعطف‭ ‬والمحبَّة‭ ‬والتوافق‭ ‬والوداد‭ ‬والميل‭ ‬والمُشاكَلة‭ ‬والمُؤانسة‭ ‬والشَّغف‭ ‬والتتيُّم‭ ‬والولَه‭ ‬والهيام،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬حربٌ‭ ‬يسعى‭ ‬إليها‭  ‬ضد‭ ‬آخر‭.‬

وياليت‭ ‬القانون‭ ‬الذي‭ ‬يسري‭ ‬بيننا‭ ‬ويُسيِّرنا‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬الآية‭ ‬التاسعة‭ ‬والثلاثين‭ ‬من‭ ‬القرآن،‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬طه‭:‬‮‬ وَأَلْقَيْتُ‭ ‬عَلَيْكَ‭ ‬مَحَبَّةً‭ ‬مِّنِّي‮»‬،‭ ‬لأنَّ‭ ‬العشقَ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬شوقٌ‭ ‬نحو‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬أصل‭ ‬المخلوق‭ ‬الأول،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬المُحبُّ‭ ‬والمحبُوب‭ ‬شخصًا‭ ‬واحدًا‭ ‬انشطرا‭ ‬اثنيْن،‭ ‬وبالعشق‭ ‬يعودان‭ ‬كما‭ ‬كانا‭ ‬وحدةً‭ ‬كاملةً،‭ ‬يعودان‭ ‬إلى‭ ‬حياتهما‭ ‬الأولى،‭  ‬حيث‭ ‬نهر‭ ‬كوثر‭ ‬المحبُوب‭.‬

الحُب‭ ‬يحوِّل‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬جبانٍ‭ ‬إلى‭ ‬شجاع،‭ ‬ومن‭ ‬بخيلٍ‭ ‬إلى‭ ‬كريمٍ‭ ‬سخي،‭ ‬ومن‭ ‬غليظ‭ ‬الطبع‭ ‬إلى‭ ‬ظريفٍ‭ ‬باسمٍ‭ ‬ضاحكٍ،‭ ‬ومن‭ ‬جاهلٍ‭ ‬إلى‭ ‬متسامٍ‭ ‬مدْرِك‭ ‬وعارف‭ ‬طبائع‭ ‬النفوس،‭ ‬ويجعل‭ ‬الغافل‭ ‬فطنًا،‭ ‬والغبي‭ ‬ذكيًّا،‭ ‬والعشق‭ ‬يجدِّد‭ ‬الحياة،‭ ‬ويجلو‭ ‬العقل‭ ‬ويهذبه،‭ ‬ويحسن‭ ‬الخلق،‭ ‬ويصفي‭ ‬الذهن‭ ‬والفهم،‭ ‬ويبعث‭ ‬على‭ ‬السُّرور،‭ ‬والسعادة،‭ ‬ورضا‭ ‬النفس،‭ ‬والرحمة،‭ ‬ويحمل‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬النقاء،‭ ‬ومقام‭ ‬الصفاء‭ ‬والألفة»‬‭.‬
يقول‭ ‬الفضل‭ ‬بن‭ ‬سهل‭ ‬راويا‭ ‬عن‭ ‬ذي‭ ‬الرياستين‭ ‬عن‭ ‬فضل‭ ‬العشق‭ ‬بأنه‭: ‬‮«‬يطلق‭ ‬اللسان‭ ‬العيي،‭ ‬ويرفع‭ ‬التبلد،‭ ‬ويسخي‭ ‬كف‭ ‬البخيل،‭ ‬ويبعث‭ ‬على‭ ‬النظافة،‭  ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬الذكاء»‬‭ .‬

ونحن‭ ‬نعيش‭ ‬بالحُب،‭ ‬ولا‭ ‬نتحلَّى‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬نتزيَّن،‭ ‬ونجعله‭ ‬شارةً‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسنا‭ ‬للمُباهاة‭ ‬والامتياز‭ ‬عن‭ ‬أقراننا،‭ ‬نزيد‭ ‬به‭ ‬وصلنا،‭ ‬كي‭ ‬يزداد‭ ‬اتصالنا‭ ‬بالمحبُوب،‭ ‬بلا‭ ‬مُفارقة،‭ ‬أو‭ ‬مُباعدة،‭ ‬أو‭ ‬نأي،‭ ‬أو‭ ‬ملل،‭ ‬أو‭ ‬سأم‭. ‬
الحُب‭ ‬هو‭ ‬الأوَّل‭ ‬والأنجع‭ ‬لمداواة‭ ‬النفوس‭ ‬من‭ ‬أكدارها،‭ ‬وأمراضها،‭ ‬وهواجسها،‭ ‬وشكوكها،‭ ‬وآلامها،‭ ‬ووساوسها‭   .‬

ألم‭ ‬نر‭ ‬الخليفة‭ ‬العباسي‭ ‬عبدالله‭ ‬المأمون(‭ ‬170‭ ‬هـجرية، ‭  ‬786ميلادية‭  - ‬218‭ ‬هـجرية،‭  ‬833‭  ‬ميلادية‭( - ‬ وهو‭ ‬سابع‭ ‬خلفاء‭ ‬بنى‭ ‬العباس،‭ ‬وكان‭ ‬أميرًا‭ ‬للمؤمنين‭- ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬ثمامة‭ ‬بن‭ ‬أشرس‭ ‬أن‭ ‬يعرِّف‭ ‬له‭ ‬العشق‭  ‬فقال‭ ‬ثمامة‭: (‬العشق‭ ‬جليسٌ‭ ‬ممتع،‭ ‬وأليفٌ‭ ‬مؤنس،‭ ‬وصاحبُ‭ ‬مُلكٍ،‭ ‬مسالكه‭ ‬لطيفة،‭ ‬ومذاهبه‭ ‬غامضة،‭ ‬وأحكامه‭ ‬جائزة،‭ ‬ملَكَ‭ ‬الأبدان‭ ‬وأرواحها،‭ ‬والقلوب‭ ‬وخواطرها،‭ ‬والعيون‭ ‬ونواظرها،‭ ‬والعقول‭ ‬وآراءها،‭ ‬وأعطي‭ ‬عنان‭ ‬طاعتها،‭ ‬وقود‭ ‬تصرفها،‭ ‬توارى‭ ‬عن‭ ‬الأبصار‭ ‬مدخله،‭ ‬وعمي‭ ‬في‭ ‬القلوب‭ ‬مسلكه‭)‬،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬المأمون‭: ‬أحسنتَ‭ ‬والله‭ ‬يا‭ ‬ثمامة،‭ ‬وأمر‭ ‬له‭ ‬بألف‭ ‬دينار‭ .‬

وقال‭ ‬ابن‭ ‬القيّم‭ ‬الجوزية (‭ ‬691هـجرية‭- ‬751هـجرية‭ /‬1292‭ - ‬1350ميلادية‭( ‬ وهو‭ ‬فقيه‭ ‬حنبلي‭  ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬للهجرة‭: ‬‮«بالمحبة‭ ‬وللمحبة‭ ‬وُجدت‭ ‬الأرض‭ ‬والسماواتُ،‭ ‬وعليها‭ ‬فُطرت‭ ‬المخلوقات،‭ ‬ولها‭ ‬تحركت‭ ‬الأفلاك‭ ‬الدائرات،‭ ‬وبها‭ ‬وصلت‭ ‬الحركات‭ ‬إلى‭ ‬غاياتها،‭ ‬واتصلت‭ ‬بداياتُها‭ ‬بنهاياتِها،‭ ‬وبها‭ ‬ظفرت‭ ‬النفوس‭ ‬بمطالبها،‭ ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬نيل‭ ‬مآربها،‭ ‬وتخلصت‭ ‬من‭ ‬معاطبها،‭ ‬واتخذت‭ ‬إلى‭ ‬ربها‭ ‬سبيل»‬‭.‬.
أما‭ ‬يحيى‭ ‬بن‭ ‬معاذ‭ (‬830‭  - ‬871‭) ‬ميلادية‭‬،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬علماء‭ ‬أهل‭ ‬السُّنة‭ ‬والجماعة‭ ‬ومن‭ ‬أعلام‭ ‬التصوف‭ ‬السني‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬الهجري،‭ ‬فيقول‭:‬ لو‭ ‬كان‭ ‬إليَّ‭ ‬من‭ ‬الأمر‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬عذَّبتُ‭ ‬العشَّاق،‭ ‬لأن‭ ‬ذنوبهم‭ ‬ذنوبُ‭ ‬اضطرارٍ‭ ‬لا‭ ‬ذنوب‭ ‬اختيار‭.‬

ومن‭ ‬قبله‭ ‬قال‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب (‬23‭ ‬ قبل‭ ‬الهـجرة‭ / ‬599‭ ‬ميلادية‭ - ‬40‭ ‬هـجرة‭ / ‬661‭ ‬) ميلادية‭:‬‮«الحب‭ ‬أساسي،‭ ‬والشوق‭ ‬مركب»‬‭ .‬
وقال‭ ‬المتنبي‭: ‬‮«‬وعذلتُ‭ ‬أهل‭ ‬العشق‭ ‬حتى‭ ‬ذقته‭ ‬فعجبتُ‭ ‬كيف‭ ‬يموتُ‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يعشق»‬‭.‬
وقال‭ ‬المرزباني،‭ ‬سئل‭ ‬أبونوفل‭:‬ هل‭ ‬سلم‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬العشق،‭ ‬فقال: "نعم‭  ‬الجلف‭ ‬الجافي‭ ‬الذي‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬فضل‭ ‬ولا‭ ‬عنده‭  ‬فهم ".‬

نحن‭ ‬العرب‭ ‬سُلالة‭ ‬حضارةِ‭ ‬عشقٍ،‭ ‬عُرِف‭ ‬شعراؤها‭ ‬العشَّاق‭ ‬الأساسيون‭ ‬في‭ ‬الشِّعر‭ ‬والعشق،‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الطبقة‭ ‬الأُوَل‭ ‬في‭ ‬الغزل‭ ‬بأسماء‭ ‬معشوقاتهم‭ ‬مثل‭:‬ قيس‭ ‬ليلى،‭ ‬قيس‭ ‬لبني،‭ ‬جميل‭ ‬بُثينة،‭ ‬عُروة‭ ‬عفراء،‭ ‬عنترة‭ ‬عبلة،‭ ‬وكُثيّر‭ ‬عزة،‭ ‬وسواهم‭ ‬ممن‭ ‬حملوا‭ ‬أسماء‭ ‬حبيباتهم،‭ ‬وحفظهم‭ ‬وعرفهم‭ ‬التاريخ‭ ‬بذلك‭ .‬

لا‭ ‬يعرف‭ ‬عشق‭ ‬المرأة‭ ‬إلا‭ ‬أرباب‭ ‬البصيرة،‭ ‬بينما‭ ‬أرباب‭ ‬البصر‭ -‬فقط‭ - ‬يحسنون‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬جسدها،‭ ‬وحسنها،‭ ‬وزينتها،‭ ‬وهذا‭ ‬البصر‭ ‬لا‭ ‬أنفيه‭ ‬عن‭ ‬أهل‭ ‬البصيرة،‭ ‬لكنني‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أؤكد‭ ‬أهمية‭ ‬البصيرة‭ ‬أولا‭ ‬عند‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬المرأة،‭ ‬ومن‭ ‬بعدها‭ ‬البصر‭.‬

الأكثر قراءة