بقلم : محمد فاروق
لا شك في أننا نحلم جميعا بإنسانية متزنة.. متحضرة..راقية.. تشجعنا على تخطى العقبات للانطلاق نحو المستقبل والبناء والاستمرار والتطور، نحلم بأن تسود مجموعة من القيم الإنسانية التي لا تنص عليها القوانين لكنها تتبلور مع التجارب والخبرات والتعاملات المختلفة بين الأفراد، وهى نفسها التي تحدد استقرار العلاقات و سموها، فليس هناك من يستطيع أن يجبرك على الحب والعطاء أو التعايش والصبر والعدالة والحماس، فهي قيم ترتقى بإنسانيتك وتدفعك دفعاً لتكون إنسانا يستمتع بالحياة ويطمع أن يرى تعاملاته مع الآخرين الذين لا يمنعهم أحد كذلك من الأنانية أو النرجسية أو العصبية أو الخوف والتردد، لأنهم في النهاية بشر يحصدون قيمهم من تجاربهم بنسب مختلفة وإلا سوف نتحول إلى ملائكة او حتى شياطين.
الإنسان.. بكل متناقضاته وأسرار اختلافه بالعقل والأخلاق والأخطاء والخبرات.. الإنسان الذي ربما يكتشف أنه تأخر عن موعد مهم ليساعد شخصا لا يعرفه ولم يقابله من قبل في الطريق العام، من دون أن يطلب منه أحد ذلك بل ويشعره ذلك بالسعادة.
تلك الإنسانية التي نتمسك بها والتي من أجلها نشاركك هذه المساحة الخاصة لتتأكد أن الإنسانية «لسه ممكنة».. وستظل.
الحب لا يحتاج إلى واسطة
ربما يعد الحب من أسمى القيم الإنسانية وأكثرها شمولا وعموما، إذ يحتضن عديد القيم الإنسانية السامية تحت مظلته، وقد لا نجاوز القصد إن جزمنا أنه أصل من أصولها، والمشرب الرئيس الذي يرتوي منه كل مُتطلع للتحلي بالأسمى منها، وهي التي تُميز البشر عما دونهم، ورغم تشعب دروب الحُب، وتعدد غاياته، يعنُّ لنا أن نعرض لدرب من أبرز دروبه، وهو العلاقة بين الرجل والمرأة.
ترك العرب القدامى تراثًا عشقيًّا وغزليًّا لا نظيرَ له بين الأمم، ورأينا شعراء قد التزموا شعرَ الغزل فقط طوال حياتهم القصيرة أو الطويلة، ورأينا أنَّ كُتب العشق يكتبها فقهاء، وأئمة، وقُضاة شرعيون، وعلماء، وأصحاب مذاهب من دون أن يسبَّهُم أحد، أو يحقد عليهم حاقدٌ، أو يشتمهم شاتم، وهم بما كتبوا كانوا أكثر علمًا وفهمًا ووعيًا وثقافةً وسماحةً ونورًا ممَّن يشتغلون بالدين في زماننا، وليس لهم نتاج فكري أو فلسفي أو فقهي أو عشقي، لأن النفس البشرية إنْ لم تكُن مُهيأة للحُب، فلن تستطيع أن تكون طبيعية في محبَّتها لخالقها.
من المدهش أن المحبَّة بين رجلٍ وامرأة لا تحتاج إلى واسطة، حيث القلبان هما اللذان يأتلفان ويتحدان، وأيضًا في الحُب الإلهي لا يحتاج العبد إلى واسطة مع رب السماوات والأرض.
فعند إخوان الصفا أنَّ «مبدأ العشق أوله نظرةٌ أو التفاتٌ نحو شخصٍ من الأشخاص، فيكون مثلها كمثل حبَّةٍ زُرِعت، أو غُصن غُرِس، أو نطفة سقطت في رحم بشرٍ ،وتكون بقية النظرات واللحظات بمنزلة مادةٍ تنصبُّ إلى هناك، وتنشأ وتنمو على مرّ الأيام إلى أن تصيرَ شجرةً أو جنينًا، وذلك أن هِمّة العاشق ومُناه، هما الدنو والقُرب من ذلك الشخص، فإذا اتفق له ذلك وسهل تمنَّى الخلوة والمجاورة، فإذا سهل ذلك تمنَّى المُعانقة والقُبلة. فإذا سهل تمنَّى الدخُول في ثوبٍ واحدٍ، والالتزام بجميع الجوارح أكثر ما يُمكن. ومع هذه كلّها الشوق بحاله لا ينقصُ شيئًا بل يزداد وينمُو».
أردتُ أن تتعلَّق الأرواح ببعضها وتأتلف، كي يتأسَّس مجتمعٌ قائمٌ على الحُب والائتلاف لا الخلاف، على العشق -وهو عندي عشقٌ رُوحيٌّ وإلهيٌّ مقدَّسٌ، لا تغيب فيه فيوض الجسد ومعارجه- لا على الشِّقاق والحقد والحسد، بحيث يصير المُحبُّ في هواه ما عاش، عشق يتجنَّب الخيانة والغدر والفِراق، ومثلبة التعدُّد، والملل والتغيُّر، قائم على الوفاء والإخلاص، وهو هنا عشقٌ يعتمد أساسًا على جوهر النفس، لا على «زينة الأجسام ومحاسنها»، بينما الأجسام تتبدَّل وتتغيَّر، والجوهر كما نعرف أزليٌّ ولا يتغيَّر.
وهنا أطلبُ عشقًا بين المُحبين، سمتُهُ التوحُّد والامتزاج والحلول الرُّوحي والاتحاد الجسدي، والوصل غير المنقطع والديمُومة، بحيث نصيرُ قومًا يكثُرُ فيه العاشقون لا الحاقدون الكارهون الحاسدون المُبغِضُون الأشرار، وأحب عندما يسألني أحدٌ، وأنا على سفرٍ، من أين أنت؟ فأجيبه: أنا من مصر العربية، «أنا من قومٍ إذا أحبُّوا ماتُوا، لأنَّ فينا جمالا ورِقَّةً»، مردِّدًا قول الأعرابي الذي كان من بني عُذرة )وهي قبيلةٌ حميريةٌ كانت تقطن وادي القرى ،( قوم يقتلهم الهوى، ويتخذون العشق مذهبًا، ولا يفري الحقد أكبادهم، ولا يمكن لأقوامٍ أن تحبَّ إلا إذا كانت عاطفتها الدينية شديدةً وسليمةً، ولديها نقاءُ إيمانٍ، وصفاءُ سريرةٍ.
ومن صفات المُحب أنه يعيش بلا تعصُّبٍ ولا عُنصرية، لأنه يحيا على الرحمة والعطف والمحبَّة والتوافق والوداد والميل والمُشاكَلة والمُؤانسة والشَّغف والتتيُّم والولَه والهيام، حيث لا توجد حربٌ يسعى إليها ضد آخر.
وياليت القانون الذي يسري بيننا ويُسيِّرنا يكون هو الآية التاسعة والثلاثين من القرآن، في سورة طه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي»، لأنَّ العشقَ ما هو إلا شوقٌ نحو العودة إلى أصل المخلوق الأول، حيث كان المُحبُّ والمحبُوب شخصًا واحدًا انشطرا اثنيْن، وبالعشق يعودان كما كانا وحدةً كاملةً، يعودان إلى حياتهما الأولى، حيث نهر كوثر المحبُوب.
الحُب يحوِّل الإنسان من جبانٍ إلى شجاع، ومن بخيلٍ إلى كريمٍ سخي، ومن غليظ الطبع إلى ظريفٍ باسمٍ ضاحكٍ، ومن جاهلٍ إلى متسامٍ مدْرِك وعارف طبائع النفوس، ويجعل الغافل فطنًا، والغبي ذكيًّا، والعشق يجدِّد الحياة، ويجلو العقل ويهذبه، ويحسن الخلق، ويصفي الذهن والفهم، ويبعث على السُّرور، والسعادة، ورضا النفس، والرحمة، ويحمل الإنسان إلى مرتبة النقاء، ومقام الصفاء والألفة».
يقول الفضل بن سهل راويا عن ذي الرياستين عن فضل العشق بأنه: «يطلق اللسان العيي، ويرفع التبلد، ويسخي كف البخيل، ويبعث على النظافة، ويدعو إلى الذكاء» .
ونحن نعيش بالحُب، ولا نتحلَّى به أو نتزيَّن، ونجعله شارةً فوق رؤوسنا للمُباهاة والامتياز عن أقراننا، نزيد به وصلنا، كي يزداد اتصالنا بالمحبُوب، بلا مُفارقة، أو مُباعدة، أو نأي، أو ملل، أو سأم.
الحُب هو الأوَّل والأنجع لمداواة النفوس من أكدارها، وأمراضها، وهواجسها، وشكوكها، وآلامها، ووساوسها .
ألم نر الخليفة العباسي عبدالله المأمون( 170 هـجرية، 786ميلادية - 218 هـجرية، 833 ميلادية( - وهو سابع خلفاء بنى العباس، وكان أميرًا للمؤمنين- يطلب من ثمامة بن أشرس أن يعرِّف له العشق فقال ثمامة: (العشق جليسٌ ممتع، وأليفٌ مؤنس، وصاحبُ مُلكٍ، مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائزة، ملَكَ الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها، وقود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله، وعمي في القلوب مسلكه)، فقال له المأمون: أحسنتَ والله يا ثمامة، وأمر له بألف دينار .
وقال ابن القيّم الجوزية ( 691هـجرية- 751هـجرية /1292 - 1350ميلادية( وهو فقيه حنبلي في القرن الثامن للهجرة: «بالمحبة وللمحبة وُجدت الأرض والسماواتُ، وعليها فُطرت المخلوقات، ولها تحركت الأفلاك الدائرات، وبها وصلت الحركات إلى غاياتها، واتصلت بداياتُها بنهاياتِها، وبها ظفرت النفوس بمطالبها، وحصلت على نيل مآربها، وتخلصت من معاطبها، واتخذت إلى ربها سبيل»..
أما يحيى بن معاذ (830 - 871) ميلادية، وهو أحد علماء أهل السُّنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثالث الهجري، فيقول: لو كان إليَّ من الأمر شيء ما عذَّبتُ العشَّاق، لأن ذنوبهم ذنوبُ اضطرارٍ لا ذنوب اختيار.
ومن قبله قال علي بن أبي طالب (23 قبل الهـجرة / 599 ميلادية - 40 هـجرة / 661 ) ميلادية:«الحب أساسي، والشوق مركب» .
وقال المتنبي: «وعذلتُ أهل العشق حتى ذقته فعجبتُ كيف يموتُ من لا يعشق».
وقال المرزباني، سئل أبونوفل: هل سلم أحد من العشق، فقال: "نعم الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم ".
نحن العرب سُلالة حضارةِ عشقٍ، عُرِف شعراؤها العشَّاق الأساسيون في الشِّعر والعشق، وهم من أهل الطبقة الأُوَل في الغزل بأسماء معشوقاتهم مثل: قيس ليلى، قيس لبني، جميل بُثينة، عُروة عفراء، عنترة عبلة، وكُثيّر عزة، وسواهم ممن حملوا أسماء حبيباتهم، وحفظهم وعرفهم التاريخ بذلك .
لا يعرف عشق المرأة إلا أرباب البصيرة، بينما أرباب البصر -فقط - يحسنون النظر إلى جسدها، وحسنها، وزينتها، وهذا البصر لا أنفيه عن أهل البصيرة، لكنني أردت أن أؤكد أهمية البصيرة أولا عند النظر إلى المرأة، ومن بعدها البصر.