محمد فاروق
غالبا ما يتم تعريف الثقة بأنها حالة من الاطمئنان والشعور بالأمان تجاه شخص آخر، أو مؤسسة أو نظام ما، بناء على اعتقاد بأن هذا الشخص أو النظام سيقوم بما هو صحيح وعادل.. لكن عندما نود أن نتخصص أكثر ونغوص فى الصورة الأشمل لمعنى الكلمة، سنكتشف على الفور أنها لا تأتى من فراغ، بل تبنى عبر الزمن من خلال تجارب ومواقف تثبت فيها الأطراف المعنية مصداقيتها والتزامها بالمبادئ الأخلاقية، فى حين يعتبر البعض أن الثقة فى حد ذاتها من دون الأخذ فى الاعتبار التجارب والمواقف السابقة، قد تبدو من العادات الخاطئة فى حالات مختلفة، لأنها تؤدى فى بعض الأحيان إلى أزمات تعيش مع الإنسان معظم حياته، خصوصا عندما يفقد تلك الثقة بداية من نفسه وصولا إلى من حوله سواء كانوا أشخاصا أو كيانات مختلفة.
وإذا حاولنا أن نتعاطى مع الثقة كقيمة إنسانية على مستوى العلاقات الشخصية، فلا بد أن نتعامل معها كأساس يقوم عليه أى تواصل ناجح، فهى التى تتيح للناس التعبير عن مشاعرهم وآرائهم من دون خوف من الانتقاد أو الخيانة أو التقليل من الأفكار، ولهذا سنعتبر أن فى غيابها تنهار العلاقات وتفقد الروابط قوتها، مما يؤدى إلى عزلة الأفراد وعدم شعورهم بالأمان.
وفى التاريخ على سبيل المثال اشتهر نابليون بونابرت بمقولة: الجيوش تسير على بطونها، والثورات تسير على الثقة، وهى المقولة التى تؤكد كيف أن الثقة كانت العنصر الحاسم الذى اعتمدت عليه الجيوش والثورات على حد سواء، فإذا فقد القائد ثقة جنوده فلا يمكن له أن يحقق أى انتصار، مهما تكن قوته العسكرية.
ومثلما حاول نابليون تأكيد نوع من أنواع الثقة فهناك تعريفات أخرى من الفلاسفة والكتَّاب عبر التاريخ، ومنها الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط الذى اعتبر الثقة جزءًا لا يتجزأ من الواجب الأخلاقى فى كتابه «نقد العقل العملي»، حيث يشير كانط إلى أن الثقة تمثل التزامًا أخلاقيًّا يجب على الفرد احترامه، حتى وإن كان الآخرون لا يفعلون ذلك.
ومن الفلسفة إلى التاريخ مرة أخرى ومنه نرى نموذج الماهاتما غاندي، قائد حركة الاستقلال الهندية، الذى كانت تجربته مثالًا حيًّا على كيف يمكن للثقة أن تكون قوة دافعة للتغيير الاجتماعى والسياسي.. غاندى نجح فى كسب ثقة الملايين من الهنود عبر التزامه بمبادئ اللاعنف والمقاومة السلمية، هذه الثقة لم تكن فقط بين غاندى وأتباعه، بل أيضا بين الهنود أنفسهم، حيث وحدت الثقة فى العدالة والحرية أمة بأكملها ضد الاستعمار البريطاني.
من جهة أخرى، هناك رأى مختلف للكاتب الأمريكى ستيفن كوفي، فى كتابه الشهير «العادات السبع للناس الأكثر فعالية»، الذى أشار فيه إلى أن بناء الثقة يحتاج إلى وقتٍ وجهد، ولا يجب أن يعتمد عليه كعامل حاسم فى تحقيق النجاح على مستوى الأفراد والجماعات.
ومن هذا الرأى يمكننا أن نرفض التسليم الكامل بوجود الشفافية والمصداقية بالضرورة لدى بقية الأفراد، وأعتقد أن هذه المسلمة مستحيلة التحقيق لأنها تتنافى مع طبيعة البشر وأخطائهم المتكررة واختلاف ظروف التربية والنشأة لديهم، وهو ما يدفعنا من جديد إلى اعتبار الثقة من القيم التى يجب التعامل معها بحذرٍ شديد وفى إطارات محددة، حتى لا تتحول إلى أداة يمكن استغلالها ضد من يتبعها.
من ناحية أخرى يأخذنا العالم ألبرت أينشتاين إلى نوع جديد من الثقة يخص الثقة بالنفس التى قال عنها: "الثقة بالنفس سر النجاح" ويبدو أن هذه العبارة تعكس دور أينشتاين فى تغيير المفاهيم العلمية بشكل جذرى من خلال النظرية النسبية التى قدمها أينشتاين، ويؤكد نجاحها فى أنه كان يثق بنظرياته رغم أنها كانت تتحدى المفاهيم القائمة لكنه نجح فى إقناع المجتمع العلمى بقبول أفكاره الثورية، وهو ما يؤكد أن الثقة بالنفس من أهم العوامل التى تسهم فى نجاح الفرد وتحقيق أهدافه، هى تلك القوة الداخلية التى تمنح الشخص القدرة على مواجهة التحديات والمخاطر بثبات وإصرار وليس نموذج أينشتاين الوحيد فهناك أمثلة كثيرة على قوة الثقة بالنفس ومنهم توماس إديسون، المخترع الأمريكى الشهير، الذى يعتبر مثالا حيا على أهمية الثقة بالنفس، حيث فشل فى أكثر من ألف محاولة قبل أن يتمكن من اختراع المصباح الكهربائى وعندما سئل عن هذه الإخفاقات، قال: «لم أفشل.. لقد وجدت ألف طريقة لا تعمل».
ومن إديسون وأينشتاين إلى باكستان التى نشأت فيها مالالا يوسفزاي، الناشطة الباكستانية الحائزة على جائزة نوبل للسلام، وهى مثال آخر على الثقة بالنفس، فبرغم التهديدات والهجوم التى تعرضت لها من قبل طالبان بسبب دفاعها عن حق الفتيات فى التعليم، لم تتراجع مالالا عن موقفها بل بالعكس، استمرت فى نشر رسالتها على مستوى العالم، ووقفت بثقة فى وجه الظلم والنضال من أجل حقوق الفتيات فى التعليم.
أما جيه كيه رولينج، مؤلفة سلسلة «هارى بوتر»، فقد واجهت كذلك رفضا من عدة دور نشر قبل أن تحقق النجاح، بعد طلاقها وعيشها فى ظروف مالية صعبة، لم تفقد رولينج ثقتها بنفسها أو بقدرتها على الكتابة، واصلت الإيمان بقصة هارى بوتر، حتى نجحت فى النهاية وأصبحت من أشهر الكاتبات فى العالم، مع بيع ملايين النسخ من كتبها وتحويلها إلى أفلام شهيرة.