امرأة‭ ‬حلمي‭ ‬التوني‭ ‬مُقدَّسة
امرأة‭ ‬حلمي‭ ‬التوني‭ ‬مُقدَّسة
1 أكتوبر 2024

أحمد الشهاوي

هذا‭ ‬فنان‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬الأصل،‭ ‬وأعاد ‭ -‬مع‭ ‬فنانين‭ ‬آخرين‭ ‬قلائل‭- ‬ الروح‭ ‬المصرية‭ ‬إلى‭ ‬اللوحة،‭ ‬واستقى‭ ‬من‭ ‬النبع‭ ‬لا‭ ‬الفرع،‭ ‬فهو‭ ‬ابنٌ‭ ‬للفن‭ ‬الشعبي‭ ‬وقصصه،‭ ‬وطقوسه،‭ ‬وأساطيره‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬أو‭ ‬استلهمها‭ ‬في‭ ‬مُنجزه‭ ‬التشكيلي،‭ ‬صعيديٌّ‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬صعيديًّا،‭ ‬لم‭ ‬يتخل‭ ‬يوما‭ ‬عن‭ ‬أعرافه‭ ‬ومُعتقداته‭ ‬وما‭ ‬يؤمنُ‭ ‬به، هو‭ ‬‮«‬تلميذ‭ ‬الفنانين‭ ‬الشعبيين،‭ ‬الذين‭ ‬رسموا‭ ‬على‭ ‬الزجاج‭ ‬والجدران‭ ‬ورسموا‭ ‬الوشم‭ ‬على‭ ‬الجلود‮»‬،‭ ‬اختط‭ ‬لنفسه‭ ‬أسلوبًا‭ ‬امتاز‭ ‬به،‭ ‬وجعله‭ ‬مختلفًا‭ ‬عن‭ ‬الآخرين،‭ ‬وصارت‭ ‬لوحته‭ ‬علامةً‭ ‬مميزةً‭ ‬ودالَّةً‭ ‬عليه،‭ ‬انشغل‭ ‬بالمرأة‭ ‬وطقوسها‭ ‬واتخذها‭ ‬رمزًا‭ ‬للأرض‭ ‬والوطن،‭ ‬كما‭ ‬انشغل‭ ‬بالحُبِّ‭ ‬وعوالمه‭ ‬في‭ ‬معارضه‭ ‬المتتالية‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬العواصم‭:‬ ‮‬للنساء‭ ‬وجوه،‭ ‬نساء‭ ‬وخيول،‭ ‬نساء‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬أنا‭ ‬حرة،‭ ‬يحيا‭ ‬الحب‮»‬، كل‭ ‬كاتبٍ‭ ‬أو‭ ‬شاعر‭ ‬له‭ ‬قصة‭ ‬مع‭ ‬الفنان‭ ‬الكبير‭ ‬الراحل‭ ‬حلمي‭ ‬التوني‭ -‬خصوصا‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭- ‬حيث‭ ‬صمم‭ ‬جميع‭ ‬أغلفة‭ ‬أعمال‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الشروق‭ ‬بمصر‭.‬

لقد‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬اللوحة‭ ‬وتصميم‭ ‬غلاف‭ ‬الكتاب،‭ ‬وخلق‭ ‬أشكالا‭ ‬مبتكرة‭ ‬لمجلات‭ ‬أسبوعية‭ ‬أو‭ ‬شهرية‭ ‬أو‭ ‬فصلية‭ ‬مثل‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الشموع‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1986‭ ‬ميلادية،‭ ‬ومجلة‭ ‬‮«‬وجهات‭ ‬نظر»‬‭.‬

وانشغل‭ ‬حلمي‭ ‬التوني‭ ‬طويلا‭ ‬بترسيخ‭ ‬الهُوية‭ ‬المصرية‭ ‬مبتعدًا‭ ‬قدر‭ ‬المستطاع‭ ‬عن‭ ‬المُباشرة‭ ‬والتقريرية،‭ ‬مستفيدًا‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬الحداثة‭ ‬والسوريالية‭ ‬التي‭ ‬استخدمها‭ ‬مبكِّرًا‭ ‬الرواد‭ ‬الأوائل‭ ‬لفن‭ ‬التصوير‭ ‬الزيتي‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬خصوصًا‭ ‬الذين‭ ‬درسوا‭ ‬وتربّوا‭ ‬فنيًّا‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسقطوا‭ ‬في‭ ‬التغريب‭ ‬وتقليد‭ ‬الفنانين‭ ‬الأوروبيين،‭ ‬حيث‭ ‬استخدم‭ ‬حلمي‭ ‬التوني‭ ‬مفردات‭ ‬ورموزًا‭ ‬من‭ ‬البيئة‭ ‬المصرية‭ ‬الشعبية‭ ‬أو‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الأدب،‭ ‬إذْ‭ ‬هو‭ ‬عندي‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬تربطهم‭ ‬علاقاتٌ‭ ‬وطيدةٌ‭ ‬بالشُّعراء‭ ‬والكتَّاب‭ ‬الروائيين،‭ ‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬مهنة‭ ‬الصحافة،‭ ‬ولكن‭ ‬لإيمانه‭ ‬العميق‭ ‬بثقافة‭ ‬الفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬وحرصه‭ ‬على‭ ‬النهل‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬الكتابة‭ ‬والموسيقى‭ ‬خصوصًا‭.‬

فقد‭ ‬مزج‭ ‬حلمي‭ ‬التوني‭ (‬1353-‭ ‬1446‭ ‬هـجرية‭/ ‬1934‭- ‬2024‭ ‬ميلادية‭) ‬بين‭ ‬التراث‭ (‬المصري‭ ‬القديم،‭ ‬القبطي،‭ ‬الإسلامي‭) ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬صياغته‭ ‬بلغة‭ ‬عصرية‭ ‬جديدة‭ ‬تتسم‭ ‬بالبساطة‭ ‬العميقة،‭ ‬والحداثة‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬الخطوط‭ ‬المصرية‭ ‬التي‭ ‬ورثها‭ ‬من‭ ‬أسلافه‭ ‬القدامى‭ ‬والأجيال‭ ‬السابقة‭ ‬عليه،‭ ‬فكان‭ ‬مصريًّا‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬الرؤية‭ ‬الاستشراقية‭ ‬التي‭ ‬صوَّرت‭ ‬الحياة‭ ‬المصرية‭ ‬وخصوصًا‭ ‬المرأة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬موقفٌ‭ ‬مناصرٌ‭ ‬لها،‭ ‬إذْ‭ ‬هدم‭ ‬فيما‭ ‬قدم‭ ‬الحاجز‭ ‬الوهمي‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬شعبيٌّ‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬أو‭ ‬أكاديميٌّ،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يجتذب‭ ‬جمهورًا‭ ‬أوسع،‭ ‬ويكسب‭ ‬أرضًا‭ ‬جديدةً‭ ‬للفنون‭ ‬التشكيلية‭ ‬التي‭ ‬يبتعدُ‭ ‬عنها‭ ‬المتلقِّي‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يألفها‭.‬

فقد‭ ‬أخرج‭ ‬حلمي‭ ‬التوني‭ - ‬غزير‭ ‬الإنتاج‭ - ‬اللوحة‭ ‬من‭ ‬قاعات‭ ‬العرض‭ ‬الرسمية‭ ‬وجعلها‭ ‬أكثرا‭ ‬انتشارًا‭ ‬وتلقّيًا،‭ ‬فصارت‭ ‬درسًا‭ ‬للفُرجة‭ ‬والمُتعة‭ ‬البصرية،‭ ‬ولم‭ ‬تعُد‭ ‬لوحته‭ ‬لأهل‭ ‬النخبة‭ ‬وصفوة‭ ‬المجتمع‭ ‬الذين‭ ‬يقتنون‭ ‬اللوحات‭ ‬عادةً‭.‬

عاش‭ ‬يسألُ‭ ‬ويبحثُ‭ ‬ويتأمَّلُ‭ ‬ويسافرُ‭ ‬ويُعمِّقُ‭ ‬تجربته‭ ‬مع‭ ‬الخَطِّ‭ ‬واللون‭ ‬والرُّؤية،‭ ‬تاركًا‭ ‬حواسه‭ ‬لترى‭ ‬وتدرك‭ ‬العناصرَ‭ ‬المخبوءةَ‭ ‬كي‭ ‬يصلَ‭ ‬إلى‭ ‬رسمِ‭ ‬البهجةِ‭ ‬المُمتلئة‭ ‬بالحيوية‭ ‬والغنائية‭ ‬التي‭ ‬يتمتَّعُ‭ ‬بها‭ ‬حلمي‭ ‬التوني‭ ‬شخصًا‭ ‬وفنًّا‭.‬

الكائنُ‭ ‬الحيُّ‭ ‬لا‭ ‬يغيبُ‭ ‬عن‭ ‬لوحة‭ ‬حلمي‭ ‬التوني‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬مقدسةً،‭ ‬والجذر‭ ‬الأساسي‭ ‬للحضارة‭ ‬والازدهار،‭ ‬أو‭ ‬سمكةً‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬الخُصوبة‭ ‬والخير،‭ ‬والامتلاء،‭ ‬والثراء‭ ‬المعنوي،‭ ‬والفأل‭ ‬الحسن،‭ ‬بوصفها‭ ‬رمزا‭ ‬مستقرًّا‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الشعبي‭ ‬المصري‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬المصريون‭ ‬القدماء‭ ‬يُقدِّسون‭ ‬السَّمك،‭ ‬ويعتبرونه‭ ‬مباركًا‭ ‬في‭ ‬معتقداتهم،‭ ‬أو‭ ‬أسدًا‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬القوة،‭ ‬ممَّا‭ ‬يخلقُ‭ ‬عبر‭ ‬عناصر‭ ‬كهذه‭ ‬غنائيةً‭ ‬تعبيريةً‭ ‬غنية‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬دلالاتها،‭ ‬وقادرة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬إيصال‭ ‬المحتوى‭ ‬المخفي‭ ‬الواضح‭ ‬في‭ ‬جمعٍ‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عفويٌّ‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬بنائيٌّ‭ ‬على‭ ‬أساسٍ‭ ‬عقليٍّ،‭ ‬أي‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬العاطفة‭ ‬والعقل‭ ‬الذي‭ ‬يهندسُ‭ ‬وينظِّمُ‭ ‬سطح‭ ‬اللوحة،‭ ‬التي‭ ‬قدَّم‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يحملُ‭ ‬من‭ ‬رموزٍ‭ ‬صارت‭ ‬تخصُّه‭ ‬وتنتمي‭ ‬إليه،‭ ‬وتشيرُ‭ ‬إلى‭ ‬سمته‭ ‬بوصفه‭ ‬فنانًا‭ ‬تشكيليًّا‭ ‬صاحبَ‭ ‬نظرٍ‭ ‬ورؤية‭ ‬خاصة‭ ‬ومُغايرة،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬تخفَّف‭ ‬من‭ ‬تصميم‭ ‬الأغلفة‭ ‬والإخراج‭ ‬الصحفي‭ ‬وصار‭ ‬متفرِّغا‭ ‬لمشروعه‭ ‬الفني،‭ ‬وتجربته‭ ‬التي‭ ‬ظل‭ ‬مخلصًا‭ ‬وحارسًا‭ ‬لها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬منحه‭ ‬بعضَ‭ ‬الرضا‭ ‬عن‭ ‬التجربة،‭ ‬مؤمنًا‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬مبدعٌ‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬زمانٍ‭ ‬أو‭ ‬مكانٍ‭ ‬سيقنع‭ ‬بما‭ ‬قدمت‭ ‬يداه،‭ ‬ولذا‭ ‬ظل‭ ‬يمارسُ‭ ‬تحولاته،‭ ‬مجربًا‭ ‬وبانيًا،‭ ‬متشكِّكًا،‭ ‬حيثُ‭ ‬لا‭ ‬يقينَ‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬فلم‭ ‬يكُن‭ ‬مستقرًا،‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬مرحلةٍ‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬ومن‭ ‬موضوعٍ‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬حاملا‭ ‬ما‭ ‬يخصُّهُ‭ ‬على‭ ‬كاهله،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفرِّطَ‭ ‬فيما‭ ‬كسبَ‭ ‬وجمعَ‭ ‬وكشفَ،‭ ‬متأثرا‭ ‬بالزخرفة‭ ‬التي‭ ‬درسها،‭ ‬مستفيدا‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬المنمنمات‭ ‬المذهبة‌‭ ‬والمزينة‌‭ ‬بالرسوم‭ ‬التي‭ ‬عُرفت‭ ‬بها‭ ‬المخطوطات‭ ‬البيزنطية‭ ‬والفارسية‭ ‬والعثمانية‭ ‬والهندية‭ ‬وغيرها‭.‬

الأكثر قراءة