أحمد الشهاوي
هذا فنان عاد إلى الأصل، وأعاد -مع فنانين آخرين قلائل- الروح المصرية إلى اللوحة، واستقى من النبع لا الفرع، فهو ابنٌ للفن الشعبي وقصصه، وطقوسه، وأساطيره التي عاشها أو استلهمها في مُنجزه التشكيلي، صعيديٌّ عاش في القاهرة صعيديًّا، لم يتخل يوما عن أعرافه ومُعتقداته وما يؤمنُ به، هو «تلميذ الفنانين الشعبيين، الذين رسموا على الزجاج والجدران ورسموا الوشم على الجلود»، اختط لنفسه أسلوبًا امتاز به، وجعله مختلفًا عن الآخرين، وصارت لوحته علامةً مميزةً ودالَّةً عليه، انشغل بالمرأة وطقوسها واتخذها رمزًا للأرض والوطن، كما انشغل بالحُبِّ وعوالمه في معارضه المتتالية في القاهرة وغيرها من العواصم: للنساء وجوه، نساء وخيول، نساء من مصر، أنا حرة، يحيا الحب»، كل كاتبٍ أو شاعر له قصة مع الفنان الكبير الراحل حلمي التوني -خصوصا نجيب محفوظ- حيث صمم جميع أغلفة أعمال نجيب محفوظ التي صدرت عن دار الشروق بمصر.
لقد جمع بين اللوحة وتصميم غلاف الكتاب، وخلق أشكالا مبتكرة لمجلات أسبوعية أو شهرية أو فصلية مثل مجلة «الشموع» عام 1986 ميلادية، ومجلة «وجهات نظر».
وانشغل حلمي التوني طويلا بترسيخ الهُوية المصرية مبتعدًا قدر المستطاع عن المُباشرة والتقريرية، مستفيدًا من قيم الحداثة والسوريالية التي استخدمها مبكِّرًا الرواد الأوائل لفن التصوير الزيتي في مصر، خصوصًا الذين درسوا وتربّوا فنيًّا في أوروبا، من دون أن يسقطوا في التغريب وتقليد الفنانين الأوروبيين، حيث استخدم حلمي التوني مفردات ورموزًا من البيئة المصرية الشعبية أو الحياة اليومية التي عاشها قريبًا من أهل الأدب، إذْ هو عندي من الفنانين القلائل الذين كانت تربطهم علاقاتٌ وطيدةٌ بالشُّعراء والكتَّاب الروائيين، ليس لأنه كان من أهل مهنة الصحافة، ولكن لإيمانه العميق بثقافة الفنان التشكيلي وحرصه على النهل من فنون الكتابة والموسيقى خصوصًا.
فقد مزج حلمي التوني (1353- 1446 هـجرية/ 1934- 2024 ميلادية) بين التراث (المصري القديم، القبطي، الإسلامي) الذي أعاد صياغته بلغة عصرية جديدة تتسم بالبساطة العميقة، والحداثة المستمدة من الخطوط المصرية التي ورثها من أسلافه القدامى والأجيال السابقة عليه، فكان مصريًّا على عكس الرؤية الاستشراقية التي صوَّرت الحياة المصرية وخصوصًا المرأة، حيث كان له موقفٌ مناصرٌ لها، إذْ هدم فيما قدم الحاجز الوهمي بين ما هو شعبيٌّ وما هو أو أكاديميٌّ، الأمر الذي جعله يجتذب جمهورًا أوسع، ويكسب أرضًا جديدةً للفنون التشكيلية التي يبتعدُ عنها المتلقِّي أو لا يألفها.
فقد أخرج حلمي التوني - غزير الإنتاج - اللوحة من قاعات العرض الرسمية وجعلها أكثرا انتشارًا وتلقّيًا، فصارت درسًا للفُرجة والمُتعة البصرية، ولم تعُد لوحته لأهل النخبة وصفوة المجتمع الذين يقتنون اللوحات عادةً.
عاش يسألُ ويبحثُ ويتأمَّلُ ويسافرُ ويُعمِّقُ تجربته مع الخَطِّ واللون والرُّؤية، تاركًا حواسه لترى وتدرك العناصرَ المخبوءةَ كي يصلَ إلى رسمِ البهجةِ المُمتلئة بالحيوية والغنائية التي يتمتَّعُ بها حلمي التوني شخصًا وفنًّا.
الكائنُ الحيُّ لا يغيبُ عن لوحة حلمي التوني سواء كانت المرأة التي يراها مقدسةً، والجذر الأساسي للحضارة والازدهار، أو سمكةً تعبيرًا عن الخُصوبة والخير، والامتلاء، والثراء المعنوي، والفأل الحسن، بوصفها رمزا مستقرًّا في الوجدان الشعبي المصري منذ أن كان المصريون القدماء يُقدِّسون السَّمك، ويعتبرونه مباركًا في معتقداتهم، أو أسدًا تعبيرًا عن القوة، ممَّا يخلقُ عبر عناصر كهذه غنائيةً تعبيريةً غنية واضحة في دلالاتها، وقادرة في الوقت نفسه على إيصال المحتوى المخفي الواضح في جمعٍ بين ما هو عفويٌّ وما هو بنائيٌّ على أساسٍ عقليٍّ، أي الجمع بين العاطفة والعقل الذي يهندسُ وينظِّمُ سطح اللوحة، التي قدَّم فيها ما يحملُ من رموزٍ صارت تخصُّه وتنتمي إليه، وتشيرُ إلى سمته بوصفه فنانًا تشكيليًّا صاحبَ نظرٍ ورؤية خاصة ومُغايرة، بمعنى أنه في السنوات الأخيرة تخفَّف من تصميم الأغلفة والإخراج الصحفي وصار متفرِّغا لمشروعه الفني، وتجربته التي ظل مخلصًا وحارسًا لها، وهذا ما منحه بعضَ الرضا عن التجربة، مؤمنًا بأنه لا يوجد مبدعٌ في أي زمانٍ أو مكانٍ سيقنع بما قدمت يداه، ولذا ظل يمارسُ تحولاته، مجربًا وبانيًا، متشكِّكًا، حيثُ لا يقينَ في الفن، فلم يكُن مستقرًا، ينتقل من مرحلةٍ إلى أخرى، ومن موضوعٍ إلى آخر، حاملا ما يخصُّهُ على كاهله، من دون أن يفرِّطَ فيما كسبَ وجمعَ وكشفَ، متأثرا بالزخرفة التي درسها، مستفيدا من فن المنمنمات المذهبة والمزينة بالرسوم التي عُرفت بها المخطوطات البيزنطية والفارسية والعثمانية والهندية وغيرها.