غياب المحتوي الكارتوني يؤثر على وعي الأطفال بشكل سلبي رغم التاريخ العريق الذي تمتلكه مصر في مجال الرسوم المتحركة، والذي أنجب أعمالا حفرت في وجدان الأجيال، فإن صناعة الكارتون المحلي تشهد اليوم تراجعًا حادًا يُنذر بفقدان أداة ثقافية وتربوية شديدة الأهمية، فالطفل المصري الذي كان يومًا يجد نفسه في شخصيات مرسومة تتحدث بلغته وتحكي حكايات من بيئته، أصبح الآن مستهلكًا لمحتوى أجنبي، لا يعكس واقعه ولا يرسخ هويته، ويعود هذا التراجع إلى مجموعة من التحديات المعقدة، في مقدمتها غياب التمويل المؤسسي، والدعم الحكومي الكافي، وضعف اهتمام القطاع الخاص بإنتاج هذا النوع من الفن؛ لصعوبة تحقيق أرباح سريعة منه مقارنة بالدراما التقليدية، وبين التحديات والآمال، يبقى مستقبل صناعة الكارتون المصري مرهونًا بقناعات شركات الإنتاج، ومنها التليفزيون المصري، لتعيد الاعتبار لهذا الفن كركيزة لبناء وعي أجيال قادمة، وليس فقط وسيلة للترفيه.
نحتاج محطات تدعم فنون الطفل
حسب رؤية الخبراء في هذا المجال، والذين تحدثنا إليهم بخصوص ضعف إنتاج مسلسلات الكارتون المصرية، فإن المشكلة تكمن في التمويل وعدم وجود دعم كاف لإنتاج مسلسلات من هذا النوع، والتي تعد مكلفة بطبيعة الحال، والمشكلة لا تقتصر فقط على الإنتاج، بل تمتد إلى غياب قناة مخصصة لدعم الطفل المصري بشكل مستمر، كما يحدث في دول عربية أخرى، كما أن غياب المحتوى الكرتوني المحلي يؤثر بشكل مباشر على وعي الأطفال، لأنه يحرمهم من وسيلة قوية لبناء القيم والانتماء الثقافي، وأن هذا الغياب يفتح المجال أمام المحتوى المستورد الذي يحمل في طياته رموزًا ثقافية ورسائل لا تتناسب بالضرورة مع البيئة المصرية.
تحديات وتمويل
أبرز التحديات التي تواجه صناعة الرسوم المتحركة هي قلة الشركات المتخصصة لإنتاج هذا النوع من الفنون مقارنةً بإنتاج الأعمال الدرامية، رأي تؤكده د. ليلى فخري أستاذ بقسم الرسوم المتحركة بالمعهد العالي للسينما، وتضيف: "وأيضا ضعف الوعي بأهمية الرسوم المتحركة كأداة ثقافية وتعليمية وفنية، وكذلك قلة القنوات المحلية المتخصصة في عرض الرسوم المتحركة، وأضف إلى ذلك نقص الكتاب المتخصصين، كما أنه لا توجد حاليا جهات خاصة للتمويل، حيث إن الشركات الخاصة تحتاج الي تمويل إما من الدولة أو من الخارج، باختصار لا يوجد تمويل مستمر، وخصوصا من جانب الدولة، سواء في التلفزيون المصري، أو في المركز القومي للسينما، رغم التطور التكنولوجي الذي يجعل ظهور العمل الفني أسرع مما سبق، ذلك ومع العلم بأن لدينا فنانين متميزين جدا في كل التقنيات المختلفة، ولكن لا يوجد استمرارية في الإنتاج رغم نجاح الكثيرين.
وتكشف لنا عن الأسباب التي جعلت صناعة الكارتون في مصر ليست مزدهرة مثل السينما والدراما فتقول:" ذلك يرجع أولًا إلى ضعف التمويل مقارنة بالدراما والسينما، إذ إن شركات الإنتاج تفضل الدراما؛ لأنها تحقق أرباحا أسرع من خلال الإعلانات أو المنصات.
ثانيًا، صناعة الرسوم المتحركة تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، مما يجعلها استثمارا غير مفضل لدى المنتجين، خصوصًا مع عدم وجود سوق مستقرة لهذا النوع من الإنتاج، حيث إن المنتجين ينظرون إلى هذه الصناعة على أنها غير مربحة.
وأضف إلى ذلك قلة قنوات العرض المتخصصة، وكذلك من وجهة نظري غياب الرؤية الإستراتيجية لاستخدام الكارتون كأداة ثقافية وتعليمية، كما أن القنوات المصرية تميل إلى شراء محتوي كارتوني مدبلج، وذلك بأسعار أقل من الإنتاج المحلي، ومن ناحية أخرى أرى أن الأسر المصرية تفضل الدراما، بينما ينظر للكارتون غالبا على أنه وسيلة ترفيهية للأطفال فقط، وليس كفن متكامل له جمهور متنوع.

المشكلة في الحقيقة ليست في جانب واحد فقط، بل هي مزيج بين مشكلة إنتاجية وضعف تسويق، لكن بدرجات متفاوتة، أولا: ضعف الإنتاج يعد جزءا من المشكلة، وذلك لقلة الموارد المالية، حيث إن إنتاج الكارتون عالي التكلفة، ويحتاج وقتا أطول من الدراما التقليدية، وذلك لندرة الموضوعات المحلية التي تجذب الأطفال والمراهقين.
ثانيا: من الناحية التسويقية، ضعف التسويق الإعلامي؛ حيث لا توجد ميزانية خاصة أو كافية للترويج للأعمال، كذلك قلة عرض الإنتاج المصري في المنصات أو القنوات المتخصصة، أضف إلى ذلك غياب التعاون بين مصر والدول العربية لانتشار الأعمال.
غياب المحتوى الجيد
غياب المحتوي الكارتوني يؤثر على وعي الأطفال بشكل سلبي وملحوظ، لأنهم يخسرون وسيلة تعليمية وتشكيلية مهمة في سنوات النمو، وهو ما يعد فقدان أداة قوية لبناء القيم والهوية؛ مما يؤدي إلى ضعف الانتماء للبيئة المحلية، فيؤدي بالتالي إلى تقليد سلوكيات غريبة عن المجتمع، وغياب المحتوي المصر يجعل المحتوى الأجنبي الذي يعرض هو المؤثر بما يحمله من رموزا ثقافية مختلفة، أو رسائل خفية، وهذا يؤثر سلبا على أجيالنا، لذا أرى أن الكارتون ليس فقط للترفيه، بل هو أداة تعليمية مثل اللغة، ومهارات التفكير، والقيم التربوية، والسلوك الاجتماعي، فغياب الكارتون الموجه لا يعيب فقط الناحية الترفيهية، بل يحدث فراغا لدى الطفل في تشكيل وعيه، وبناء هويته، وتوجيه سلوكه.
تنمية صناعة الكارتون
تحتاج تلك الصناعة إلى دعم ممنهج وتعاون بين القطاعين العام والخاص لتنهض، وذلك من خلال الدعم المادي، وأرى "ضرورة وجود صناديق تمويل مخصصة لدعم مشاريع الرسوم المتحركة، وبخاصة المستقلة والمحلية"، إضافة إلى تقديم تسهيلات ضريبية أو إعفاءات للاستوديوهات في هذا المجال، كما يجب تبني الكارتون كوسيلة تربوية وثقافية، وتخصيص قنوات ومساحات ثابتة لعرض الكارتون، كما كان يحدث في السابق، ومن الضروري جدا إعطاء الأولوية للمحتوى المحلي.
إحباط الدارسين
يوجد الكثير من الاستوديوهات الخاصة التي تتبني خريجي قسم الرسوم سواء من المعهد العالي للسينما أو كليات الفنون الجميلة أو التطبيقية، حيث إن الدارس لهذا المجال يمر بالكثير من التقنيات خلال دراسة أربع سنوات، ومن المؤكد أن الطلبة لديهم شغف بهذا المجال، وخصوصا أنهم يلتحقون بالقسم الخاص لتعليم وإنتاج هذا الفن، ولكن الطالب عند تخرجه يفقد هذا الشغف للأسباب السابقة التي تحدثنا عنها، ولعدم وجود فرص عمل تتيح له العمل الإبداعي الذي يتربح منه ليقدم المزيد من الأعمال.
يبرر الأزمة د. مصطفى الفرماوي أستاذ الرسوم المتحركة بالجامعة البريطانية وصاحب استوديو خاص لإنتاج الرسوم المتحركة عن التحديات الخاصة بصناعة الرسوم المتحركة بأنها تكمن فى التحديات والإنتاج الخليجي فيقول: بالطبع هناك تحديات كبيرة جدا في مصر منها: أن كل إنتاج الرسوم المتحركة التي كنا ننتجها كانت لدول الخليج باللغة العربية الفصحى، والإنتاج في مصر منذ عام ٢٠١٠ توقف حين توقفت القناتان الأولى والثانية والقنوات التلفزيونية المتخصصة عن الإنتاج، فتوقفت الصناعة وتأثرت بشكل كبير جدا، كل الإنتاج أصبح للدول العربية، وإنتاجا منفردا، وكلها أعمال من أجل "السوشيال ميديا واليوتيوب"، فطبعا لم يعد المواطن أو الطفل المصري مستهدفا من إنتاج الرسوم المتحركة إلا بأقل القليل، وبالتأكيد هذه التحديات من دون جهة تمويل، وجهة إنتاج، ومن دون إسهام الدولة في إنتاج أعمال توجه الطفل وتؤهله وتدعم روح الانتماء لديه يصبح الموضوع صعبا جدا، ويتيح المجال لإنتاج الأعمال التجارية.
محاولات فردية
هناك محاولات كثيرة جدا ناجحة، وهناك من يحفرون في الصخر من أجل هذه الصناعة لكي تظل باقية، ومن أجل إعادة الإنتاج من جديد، وبخاصة أن هذه الصناعة صناعة ممتعة ومبهرة، فهناك خريجون من جامعات خاصة وحكومية، ومن معهد السينما، وفنون جميلة، وغيرهم، يتخصصون في صناعة الرسوم المتحركة، ولا يجدون عملا يشاركون فيه بعد التخرج، وفي الحقيقة سوق العمل أصبحت مكتظة بفناني الرسوم المتحركة والمختصين في هذا المجال، ولا يجدون عملا يكفيهم؛ بسبب عدم استمرارية الأعمال، وبسبب أن هناك أعمالا فردية قليلة لم يكتب لها الاستمرار، مع أن مصر لها الريادة في صناعة الرسوم المتحركة في الوطن العربي، ويمكن في الشرق الأوسط كله، إلا أننا تأخرنا كثيرا في الفترة الحالية في دعم هذا الإنتاج، وربما كان للأزهر دور في فترة، حيث بدأوا من خلال مجلة "نور" صناعة بعض أعمال الرسوم المتحركة وتمويلها، ولكن أعتقد أن هذا التمويل لم يستمر؛ نظرا لعدم تحقيق أرباح من الإنتاج.
مواكبة التطور
مع ظهور التقنيات الحديثة في الصناعة، أصبحت تعتمد بشكل كبير علي التطور التكنولوجي مع تطور البرامج، وحاليا الذكاء الصناعي أصبح له دور كبير في صناعة الرسوم المتحركة، ولذلك أصبح من المهم جدا لكل فناني الرسوم المتحركة أن يواكبوا التطور الحالي في هذه الصناعة في العالم، حتى لا نكون متأخرين في تنفيذ أعمال رسوم متحركة تكون على مستوى عالمي، وهناك طبعا أعمال مصرية قوية وما زالت تنافس، وعلي سبيل المثال قمنا من خلال الشركة بالإنتاج للتلفزيون المصري لأكثر من عشر سنوات، قدمنا من خلالها العديد من المسلسلات القيمة التي حصلت العديد من الجوائز، وأعمالا كان لها صدى كبير جدا عند الجمهور، منها بكار، ويوميات الأستاذ سحلاوي، وبدر، وخيال المآتة، وطبعا مجموعة قصص القرآن للفنان يحيى الفخراني"، ولنا قناة علي اليوتيوب باسم "كارتونيل" والحمد لله حققت أكثر من ٣٠ مليون مشاهدة، وهو يعد رقما جيدا جدا، وبدأنا نجني بعض الأرباح البسيطة من القناة، ولكن ما زالت هذه الأعمال مرتبطة بشكل كبير جدا باحتياجات "السوشيال ميديا"، وليس باحتياجات الطفل.
تأثيرها على الأطفال
هذه النوعية لها تأثير قوي جدا على صناعة أهداف الطفل وتفكيره وبناء شخصيته، لأن الطفل ممكن أن يجلس ساعات طويلة جدا يشاهد الرسوم المتحركة، ويتعلم منها ما لا يستطيع المعلم في المدرسة أن يعلمه، فالرسوم المتحركة وسيلة تعليمية قوية جدا، وربما كان لوزارة التربية والتعليم بعض المحاولات في صناعة الرسوم المتحركة من خلال قناة "مدرستنا" وقنوات أخر،، ولكن للأسف فكرة الاستمرارية هي الفكرة الملحة في صناعة المحتوي المقدم للطفل، ووجود قناة مصرية أمر ضروري مثل قناة "ماجد" في الإمارات، وقناة "جيم" في الجزيرة، وقنوات أخرى في دول صغيرة، أعتقد أن مصر لها الحق أن يكون لها محطة تدعم الطفل وتوجهه وتعلمه، وتكون منارة للدول العربية يستقون منها أعمالهم.
أما بخصوص الخريجين العاملين في مجال الرسوم المتحركة والشغف الخاص لديهم تجاه هذا النوع من الفن، فطبعا كلهم لديه شغف للعمل في هذا المجال الممتع جدا، والتطور التكنولوجي الحادث في هذه الصناعة يخرج نتائج مبهرة، فبالتالي الطلبة دائما في حالة شغف بالتعلم والتدريب والإبداع، بالإضافة إلى وجود "السوشيال ميديا" كوسيلة لعرض الأعمال ونشرها سريعا على الجمهور، ليستقبلوا ردود الأفعال وآراء الجمهور، مما يعطيهم دافعا كبيرا لتطوير أنفسهم وإمكاناتهم.