لم يكن الخط العربي مجرد وسيلة للكتابة أو التواصل، بل كان دائماً فناً يعكس جوهر الثقافة العربية والإسلامية وظل حتى اليوم مصدر إلهام للعديد من الفنانين. بمرونته الفريدة، وقدرته على التمدد والانحناء بسلاسة، دخل عالم الفن التشكيلي بجدارة،
ليصبح وسيلة تعبير تمتزج فيها الجمالية بالحركة والإيقاع البصري المميز. في أعمالها الخزفية، تعكس نسرين هذا السحر البصري، حيث تدمج بين الخط العربي والخزف بأسلوب يجمع بين الأصالة والحداثة.
في هذا الحوار الخاص لموقع البيت ونصف الدنيا تأخذنا الفنانة نسرين ضمرة في رحلة عبر تفاصيل شغفها، كاشفة عن بداياتها، ورؤيتها الإبداعية، وكيف استطاعت أن تحوّل حبها للخزف إلى رسالة فنية تحتفي بجمال التراث العربي في أبهى صوره.
منذ طفولتها كانت الألوان والأشكال تفتح أمامها أبواب الخيال، حيث وجدت في الرسم وسيلة للتعبير عن ذاتها واكتشاف الجمال في تفاصيل الحياة اليومية. هذا الشغف المبكر لم يكن مجرد هواية عابرة، بل شكّل الأساس لمسيرتها الفنية، التي انطلقت حين التحقت بمركز للحرف اليدوية بعد الثانوية العامة، حيث تدربت على أيدي خبراء من الأردن وإيطاليا، واكتسبت مهارات متقدمة في التشكيل والتزجيج والتزيين، مما منحها قاعدة صلبة في فن الخزف.
لكن الحياة كانت تخبئ لها منعطفًا حاسمًا حين أصيبت بمرض السرطان، مما اضطرها إلى التوقف عن العمل.
وبرغم قسوة التجربة، كانت نقطة تحوّل جوهرية، فبعد شفائها، قررت تحقيق حلمها بتأسيس ورشتها الخاصة، ومن هنا، وُلد مشروع "ميراث" في عام 2020، في خضم تحديات الجائحة، متخذًا من عبارة "إني بميراث قومي فخور" شعارًا ورسالة، ويجسد رؤيتها في المزج بين الأصالة والحداثة، مقدمًا أعمالًا خزفية تحمل في تفاصيلها روح التراث بجمال معاصر.
تقول نسرين لمجلة البيت ونصف الدنيا:
"جذوري العربية زرعت في داخلي هذا التقدير العميق للجمال الكامن في التراث، فوجدت في الخط العربي لغة بصرية تحمل فلسفتي في التصميم."
شكلت جذورها العربية هويتها الإبداعية فوجدت في الخط العربي لغة بصرية تتناغم مع فلسفتها في التصميم، فكل انحناءة وامتداد للحروف تحمل قصة وتاريخاً، وهذا ما سعت لتجسيده في أعمالها الخزفية، فاستخدام الخط العربي في تصاميمها ليس فقط لإضفاء لمسة جمالية، بل هو رسالة لإعادة إحياء التراث وتقديمه بروح متجددة، ليظل نابضا بالحياة في كل قطعة تبتكرها.
قبل تنفيذ أي تصميم جديد، تمر نسرين بمرحلة مكثفة من البحث والاستلهام، حيث تبدأ رحلتها بالاطلاع على الزخارف التاريخية وتطور أنماط الخط العربي، سواء الكلاسيكية أو الحديثة، إلى جانب استكشاف النصوص الأدبية والشعرية التي قد تضيف بعداً ثقافياً للتصميم. ثم تنتقل إلى رسم التصورات الأولية على الورق، حيث تجرّب تكوينات مختلفة للخطوط والزخارف، مع التركيز على تحقيق التوازن بين جمالية الحروف العربية وانسيابية التصميم، بحيث يكمل كل عنصر الآخر بتناغم. ولا تقتصر التجربة على الأشكال فقط، بل تمتد إلى الألوان والخامات، حيث تختبر الطلاءات والتزجيجات والتقنيات المختلفة لتقييم تفاعلها مع التصميم بعد الحرق في الفرن.
هذه العملية الدقيقة تضمن أن تعكس النتيجة النهائية الفكرة الأصلية بأفضل صورة ممكنة، سواء من حيث الجمال أو الوظيفة، لتحوّل الفكرة من مجرد تصور إلى عمل فني متكامل يحمل في طياته روح التراث بلمسة معاصرة.
لطالما كانت ردود الفعل تجاه أعمال نسرين مصدر إلهام لها، حيث يتجاوز تأثير أعمالها الناطقين بالعربية ليصل إلى عشاق الفن حول العالم، وقد لمست ذلك من خلال تفاعل الأجانب مع تصاميمها، مما دفعها لإضافة ترجمة إنجليزية لكل عبارة منقوشة لتعزيز فهم المعنى العميق وراء الكلمات. ومن القصص التي بقيت راسخة في ذاكرتها، كزيارة محام إسباني جاء خصيصاً إلى ورشتها لاقتناء قطعة خزفية لمعلمه تعبيراً عن امتنانه، واصفاً إياها بأنها "جسر يربط بين الثقافات."
وفي موقف آخر، اختارت سيدة أمريكية كوباً خزفياً يحمل مقولة محمود درويش: "أنا من هناك.. ولي ذكريات."، قائلة إنه يعبر عن إحساسها بالغربة واشتياقها لوطنها، فمثل هذه اللحظات تؤكد لنسرين أن الخط العربي ليس مجرد فن بصري، بل لغة عاطفية تتجاوز الحدود والثقافات.
"ما يسعدني حقًا هو رؤية كيف يتفاعل الناس مع تصاميمي، وكيف تلامس أعمالي مشاعرهم. أسعى لأن يشعر كل من يقتني قطعة من "ميراث" وكأنها تخاطب ذاكرته الثقافية، وتحيي داخله مشاعر الحنين والفخر بالتراث."
لكل مجموعة من تصاميم نسرين مكانة خاصة في قلبها، فكل واحدة تحمل قصة تعكس شغفها بفن الخزف والتراث، لكنها تشعر بارتباط خاص بالمجموعات التي تحمل بُعداً تاريخياً وأدبياً وفلسفياً، لأنها تتجاوز الجمال البصري لتنقل أفكاراً وقيَماً بطرق مؤثرة. وتجد متعة خاصة في نقل حكم الفلاسفة وأبيات الشعراء وأقوال الأدباء إلى الخزف.
وتعمل نسرين حالياً على مجموعة جديدة من القطع الخزفية المزينة بالخط المسند العربي، وهو أحد أقدم الخطوط العربية ذات الطابع الفريد، كما تعمل على إعادة تطوير مجموعة مستوحاة من الزجاج المعشق والشمسيات والقمريات في العمارة الإسلامية، لتقديم تصاميم تتفاعل مع الضوء والعناصر المحيطة. إلى جانب ذلك تخطط لإحياء بعض الأعمال الإسلامية التقليدية التي تزين المتاحف، مثل الصحون والأباريق والكؤوس الخزفية باستخدام تقنيات حديثة.
كما تعتمد على تقنيات يدوية دقيقة في الحفر والتلوين وهذا ما يجعل كل قطعة فريدة وغير مكررة على عكس الإنتاج الصناعي، كما تولي اهتماماً خاصاً بتفاعل الخط العربي مع الضوء والملمس، لتمنح القطع أبعاداً حسية وبصرية تحوّلها إلى لوحات فنية ثلاثية الأبعاد بروح ورؤية معاصرة.
وتستوحي أسماء مجموعاتها من الأدب العربي والتاريخ والفنون الإسلامية، حيث تسعى إلى أن تعكس كل مجموعة قصة وأفكاراً تعبّر عن جوهر التصميم، فالأسماء ليست مجرد عناوين بل جزء أساسي من الرواية التي ترويها القطع. على سبيل المثال استلهمت إحدى مجموعاتها من أجواء كتاب "ألف ليلة وليلة"، بينما جاءت مجموعة "الأندلس" تكريمًا للفن المعماري الأندلسي، حيث تجسدت زخارفها المتناسقة مع الخط العربي على المزهريات المجنحة.
وتري نسرين ان الذكاء الاصطناعي يمثل تطوراً مهماً في عالم التصميم بما في ذلك فن الخزف حيث يمكنه إحداث ثورة في أساليب تطوير التصاميم وتسريع بعض العمليات، ومع ذلك لا يمكنه أن يحل محل الحرف اليدوية التي تحمل روح المصمم ولمسته الفريدة. حيث يبقى الإبداع الإنساني قائماً على التفاعل المباشر مع المواد واستشعار التفاصيل الدقيقة، وهو ما لا تستطيع التكنولوجيا محاكاته بالكامل.
أما عن المستقبل فتعتقد أنه سيكون هناك توازن بين التكنولوجيا والحرفية، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتكامل مع الإبداع البشري لإنتاج تصاميم مبتكرة، مع الحفاظ على جوهر الحرفة واللمسة الشخصية التي تمنح كل قطعة هويتها الفريدة.A