حكاية حب
حكاية حب
مشاهدات: 267
31 أغسطس 2015

 جاءتني فتاة شابة فى النصف الثانى من العشرينيات .. حائرة .. شاردة .. قلقة .

قرأت فى عينيها أسئلة كثيرة فدعوتها إلى الحديث عما يتصارع داخلها من مشاعر.. وبعد قليل من التردد بدأت تحكى .. قالت :

هل يمكن أن تتغير المشاعر إذا ما كانت حقيقة وصادقة ؟

فأجبتها:

 كل شيء فى الحياة قابل للتغيير حتى المشاعر .. وقد تكون صادقة لكن هناك عوامل أخرى كثيرة تؤثر فى استمرارها وقوتها . وهنا أطلت نظرة أسى من عينيها ومضت تكمل الحكاية : لقد ربطتنى علاقة حب قوية وعميقة بشاب ناجح وطموح ، ورغم أنه شعلة حيوية و» دينامو» فى عمله كما يطلقون عليه  إلا أنه كان فى بداية علاقتنا متدفقا بالمشاعر، رومانسيا إلى أبعد حد . وكنت فى العام الأول أشعر بسعادة غامرة، وأحس بنشوة الحب تجعلنى ألامس السحاب ! فقد كان حبيبى يحتوينى بحنان عجيب، ويحيطنى باهتمام صادق، ويعطينى بلا حدود .

سألتها : وما المشكلة إذن ؟

قالت : المشكلة أن كفة الميزان فى علاقتنا قد تبدلت ، فبعد أن كان دائم الاتصال بى ، مهتما ومتابعاً لكل تفاصيل يومى ، وبعد أن كان الأكثر انشغالا وهياما بى ، أصبحت أنا –الآن – التى تطارده !

نعم أنا لا أبالغ فى هذا الوصف لأننى فعلا أعاتب نفسى فى كل مرة أتصل به تليفونياً فى أثناء اجتماع مهم، أو مقابلة عمل، وأفاجأ بارتباكه، وأحيانا ضيقه من اتصالي الذى أتى فى غير وقته أو مكانه . ولا أدرى لماذا أفعل ذلك ؟ أشعر أحيانا أنه أصبح مسيطراً على تفكيرى بشكل مرضى .. وأجد نفسى أقدم على تلك التصرفات الغبية رغم انني أدرك أنها خطأ !

وما الذى يشغلك الآن غير هذا الحبيب .. وتلك المشكلة .. ماذا عن عملك . عن اهتماماتك .. أصدقائك .. هواياتك .. علاقتك بالآخرين ؟

كل هذا للأسف تضاءل .. بل تلاشى وتباعد عن مركز تفكيرى .. كل علاقاتى بزملائى وأصدقائي من الجنسين انهارت ، ولم يعد لها وجود، رغم أنهم حاولوا أن يعرفوا سر تغيرى، ونصحونى بالتمسك بالصداقة التى هى خير سند للإنسان فى مواقف كثيرة صعبة .. لكن ذهبت تلك المحاولات سدى ! فقد أنكرت وجودهم أو ألغيته حتى اأفرغ لحبى الذى ملك نفسى وروحى وكيانى .. والغريب أنه كان هو نفسه يلح على أن أزور صديقاتى المقربات، أو أذهب معهن إلى النادى مثلما كنت أفعل من قبل .. وكثيرا ما نصحنى بأن أفكر فى أمور أخرى غير حبنا حتى لا يرهقنى التفكير، وحتى أعيش حياة متوازنة سعيدة . لكننى – دون أن أدرى – أكرر أخطائي ، وازداد التصاقا به ! أعرف أن هذا كله خطأ .. لكننى أبحث عن مشاعره الأولى .. ولهفته الأولى على رؤيتى كل يوم، ومحادثته تليفونياً عدة مرات يوميا ، أين ذهبت تلك المشاعر ؟ وهل انقلب ميزان حبنا .. وأصبحت كفة حبيبى هى الأرجح ..ماذا أفعل ؟

كنت أستمع إلى حكايتها باهتمام، وتركتها تسترسل فى الحديث، وتبوح بكل مخاوفها وهواجسها . والحقيقة أنني استمعت إلى هذه المشكلة عشرات المرات من فتيات شابات، ومن سيدات ناضجات، وهذا هو الغريب أقصد أن المرأة فى مرحلة عمرية معينة من المفترض أن تكون خبرتها وإدراكها ووعيها حصنا لها من الوقوع فى هذا الخطأ .. فمرحلة النضج تعنى تجاوز الاندفاع العاطفى الجامح الذى يلغى العقل تماما فى علاقة الحب .. ويبدو أن السبب فى ذلك يرجع إلى طبيعة التربية التى تغرس فى أعماق الطفلة مشاعر العطاء بلا مقابل ، وإنكار الذات من أجل الآخرين ، وتكرس صفة الشهيدة والمضحية والمتفانية فى امتداح الزوجة أو الأم التى تلغى نفسها ، وتنكر ذاتها من أجل إسعاد أولادها واستقرار بيتها !

وللأسف تتسرب هذه المفاهيم إلى العقل الباطن للفتاة ، ودون أن تدرى تتصرف – غالبا- فى علاقة الحب من هذا المنطلق .. الذوبان فى الآخر أو التلاشى فى عالمه ، وإلغاء نفسها تدريجيا لتصبح مجرد تابع أو مجرد ظل لهذا الحبيب ! .. وفى هذا كله تنسى طموحها الشخصى واهتماماتها الخاصة، وشيئا فشيئا تمحو شخصيتها، وتلغى كيانها وتذوب فى الآخر .. الذى هو الحبيب !.. وهذا الخطأ تقع فيه معظم الفتيات والنساء الناضجات .. فالفتاة هنا لا تفقد شخصيتها أو طموحها فحسب، بل تفقد ذلك الحبيب الذى اعتقدت أنه سيكون كنزها الوحيد فى العالم، وأملها الذى يتضاءل أمامه أي شيء فى الوجود !

عزيزتى .. أحبى كما شئت .. لكن كونى نفسك، لاحظت أن لهفته الأولى قد تراجعت، واندفاعه الذى ولد مع بداية العلاقة قد تباطأ .. وكاد يتوقف .. فهل فكرت وبحثت عن السبب ؟ .. إن هناك .. عزيزتى .. مسافة مطلوبة دائما بين أي حبيبين حتى تنجح علاقتهما وتستمر .. هذه المسافة تسمح لكل طرف أن يرى الطرف الآخر ويشعر به، بل ويفتقده أحيانا .. وهى أشبه بالمسافة التى نضبطها بيننا وبين كتاب نقرأه، فبدون هذه المسافة لا نستطيع أن نرى السطور أو نتبين الحروف، ونتأمل معنى الكلمات أو نحاور أفكار الكاتب .. هذا بالضبط ما نحتاجه لإنجاح علاقة حب قوية وأصيلة . أن نحترم هذه المسافة ولا نخترقها، بل نحافظ عليها، وهذا لا يعنى الابتعاد أو التجاهل .. بل على العكس يعنى التقدير والاهتمام من كل طرف لمسئوليات ومشاغل الطرف الآخر، ويعكس قدراً من الاحترام للطموح الشخصى من كلا الطرفين .. فالإنسان يجب أن يحقق ذاته، ويشعر بنجاحه وإنجازه حتى يستطيع أن يتواصل بصورة أفضل وأعمق مع شريكه . أما إذا كان مصابا بالارتباك  وتسيطر عليه مشاعر الإحباط أو الإخفاق فلن يستطيع أن يعطى أو يحب .

كذلك يعمق التقدير المتبادل للظروف واحترامها من تلك العلاقة، فالإنسان لا يمكن أن يكون حالما طول الوقت، والنتيجة الطبيعية لعدم تقدير الظروف والمشاكل هى أن ينفلت الزمام، وينفرط عقد اللؤلؤ الذى كان يزين العنق الجميل .

وتأكدى أن الحب يحتاج إلى العقل كما يحتاج إلى القلب .. واعلمي أن اهتمامك بنفسك ووضع أهداف لحياتك العملية، وممارسة الهوايات والاهتمامات التى كانت تسعدك، وترضيك من قبل .. كل هذا سوف يعيدك إلى نفسك .. ويجعلك تستردين جزءا من كيانك الذائب فى كيان الحبيب .. وهنا سوف يشعر بك مرة أخرى .. فالمسافة المطلوبة سوف تضبط . وعندئذ سوف يكون لديه الفرصة لأن يقرأ الكتاب . يرى سطوره ويتبين حروفه . سوف يتأملك بإعجاب، ويحاورك باستمتاع .. ويحبك أكثر !..