الأستاذة خديجة
الأستاذة خديجة
مشاهدات: 168
23 يناير 2019

علمت بالخبر بعد مضى أكثر من أسبوع على رحيلها، لم يكن تعنيفى لنفسى سببه فقط تأخر علمى بخبر وفاتها وعدم مشاركتى فى وداعها بل أيضا لأننى خلال الأعوام الأربعة الماضية نتيجة لمتوالية وفاة أمى وشقيقتى،تشرنقت على ذاتى وآثرت الوحدة كى لا أثقل على الأصدقاء والمعارف بأحزانى أو بهواجس كئيبة تفسد عليهم أيامهم، ليظل التواصل واللقاء بيننا فكرة مؤجلة ولو لحين. اليوم تبكتنى النفس فكم من مرة مررت ببيتها واستشعرت الحنين لجلسة جمعتنا فى شرفتها الدائرية المطلة على النيل ولكنى كنت فى كل مرة أتعلل بسبب ما لعدم صعود الدرجات القليلة التى تفصل بين موقعى فى الطريق وشقتها وأعاهد النفس أن أتصل بها فى أى مرة تقودنى قدماى إلى شارع أبوالفدا الذى استوطنته أم كلثوم ونخبة من المشاهير كان من بينهم شادى عبدالسلام وهند رستم وزوزو حمدى الحكيم..و.. وبالطبع الكاتب ونقيب الصحفيين الأسبق الأستاذ كامل زهيرى ورفيقة عمره الأستاذة خديجة قاسم، ولكن هاهى قد رحلت دون أن أوفى بالعهد! 

رغم أننى رأيتها مرارا وتكرارا فى حديقة نقابة الصحفيين التى اعتدت وزملائى فى قسم الصحافة بكلية الإعلام أن نتطفل عليها أثناء دراستنا فى كلية الإعلام ربما تعجلا واشتياقا ليوم نحصل فيه على بطاقة هوية تؤكد انتماءنا لمهنة أرباب القلم، وربما سعيا لرؤية كتاب وصحفيين كبار عرفناهم من سطورهم ومن خلال حكايات أساتذتنا فى كلية الإعلام. وبغض النظر عن الأسباب والمبررات التى دفعتنا للسير على الأقدام من جامعة القاهرة بالجيزة حتى مقر النقابة فى وسط القاهرة جرت العادة أن تقودنا أقدامنا المنهكة للجلوس بالقرب منهم  لمتابعة مناقشاتهم والتقاط أطراف حوار ومعلومات وطرائف يتبادلونها..فى ذلك الحين بدت الأستاذة خديجة معاملا له ثقله ووزنه فى كل شأن نقابي، يفرض احترامه على الجميع..ورغم دقة تكوينها الجسمانى كانت تبدو وكأنها تملأ فضاء المكان فلا تترك فيه مساحة لأى شخص آخر.. فى ذلك الحين ظننت لغفلتى وجهلى بتاريخها المهنى أن المكانة التى تتمتع بها مستمدة من علاقتها بالأستاذ كامل زهيرى نقيب الصحفيين،فلم أمتلك جرأة الاقتراب منها أو التحدث معها مثلما فعل زميلى العزيز أسامة أيوب ورفاقه من الدفعة التى سبقتنا فى الالتحاق بكلية الإعلام.. وهكذا ظلت لسنوات صورة الأستاذة خديجة التى لم أكن أعرف مهنتها ولا لأى مؤسسة صحفية تنتمى لتعدد واختلاف مذاهب واتجاهات من يتحلقون حول ركنها المختار فى حديقة النقابة، تبعث فى نفسى إحساسا بالاحترام المشوب بالرهبة وبفضول لم أجسر قط أن أشبعه إلى أن حانت الفرصة.. 

كنت قد اعتدت فى بداية عملى بالأهرام أن أجلس فى حضرة الفنان المبدع حسين أمين(رحمه الله) الذى حمل مسئولية كتابة مانشيت الأهرام بخط يده لسنوات قبل ظهور وانتشار الكمبيوتر، لأستمتع بحديثه عن أسرار الخط العربى وذكرياته فى الأهرام. لحسن الحظ كانت الأستاذة خديجة هى الأخرى تأنس لحديثه مما أتاح لى فرصة التعرف بها على المستوى الشخصى وأن أنهل من فيض علم ورحابة إنسانية وخبرة صحفية، اكتسبتها خلال عملها فى مؤسسة روز اليوسف وعلاقتها بالفنانة وصاحبة الدار السيدة فاطمة اليوسف ونجلها الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، ثم عملها مع الكاتب الكبير يوسف السباعى فى منظمة الوحدة الأفروآسيوية، وبالقطع من خلال علاقتها بشريك عمرها ووالد نجلها الوحيد عمرو، الأستاذ كامل زهيرى،الذى لم أسمعها قط تتحدث عنه أو تدعوه إلا  بلقب الأستاذ كامل..

فى تلك السنوات اكتشفت أن السيدة صاحبة المواقف التى لا تخشى فى الحق لومة لائم،والتى على أهبة الاستعداد دائما للتصدى للكبار دفاعا عن صاحب حق أو  صونا لكرامة المهنة وحرية الصحافة واستقلال نقابة الصحفيين، ذات حس فنى مرهف..عاشقة للتاريخ ولإحياء القاهرة القديمة التى شهدت طفولتها وصباها..يحلو لها ولرفيق دربها استكشاف سحر القاهرة القديمة وتأمل قلعتها عندما تهدأ شوارع المحروسة.. ملمة بتاريخ وحضارة دول آسيوية لم نسمع بها إلا بعد تفكك الكتلة الشيوعية..تدون أوراقا كثيرة عن كازاخستان وأوزبكستان ودويلات أخرى تنتهى أسماؤها ب»ستان» تأهبا لرحلة استكشاف تتمنى أن تقوم بها عندما تتهيأ الظروف وتطمئن على نجلها وصحة الأستاذ.. فالفتاة الجميلة الطموحة التى لفتت أنظار شيوخ المهنة  وحازت ثقتهم واحترامهم وتوقعوا لها مكانة مميزة فى عالم الصحافة فى ستينيات القرن الماضى اختارت أن تكون الأولوية فى حياتها لابنها وشريك عمرها وكرامة نقابة لم تتخلف مرة عن الإدلاء بصوتها فى انتخاباتها حتى بعد أن أجهدها المرض.. 

وها قد مضت الأستاذة خديجة قاسم ولكنها تركت فى قلوب وأرواح كل من صادفها بصمة لن تُنسى وخلفت وراءها تاريخا مهنيا مشرفا تحفظه أروقة ودهاليز نقابة الصحفيين وقاعات التحرير الصحفى فى كل المؤسسات التى عملت بها، وأوراق أتمنى أن يبادر بجمعها ونشرها الزميل عمرو زهيرى ليس فقط تكريما لكاتبة صحفية آثرت البحث والتنقيب عن غير المطروق والمألوف سعيا وراء جديد مختلف، بل أيضا للتأريخ لفترة مهمة فى تاريخ الصحافة المصرية وكشف ما دار فى كواليسها من خلال صفحات خطتها مناضلة نقابية آثرت أن تعمل فى الظل، ورفيقة لدرب نقيب له مكانة خاصة فى نفوس أبناء المهنة لمواقفه الصلبة المشرفة حفاظا على استقلال نقابة الصحفيين وتأمين حرية الكلمة فى الزمن الصعب..  فكلها صفحات تؤرخ لمرحلة فى عمر وطن ولحكاية ست مصرية أصيلة اسمها خديجة قاسم..