تصحر عاطفي (1)
تصحر عاطفي (1)
مشاهدات: 336
12 أغسطس 2018

تنبهت قرون استشعار الصديقات عندما أنّت إحداهن قائلة «تعبانة».. ضربن أخماسا في أسداس قبل أن تواتي أي منهن الشجاعة للاستفسار عن نوع التعب الذي لم تستطع الصديقة أن تكتمه وتحتفظ بسره لنفسها.. هل أصابها أو أصاب أحد أفراد أسرتها مرض والعياذ بالله؟! هل وصلت الأزمة الاقتصادية لبيتها فهددت استقرارها المادي؟ هل يتعرض عشها الهادئ لهزة بسبب حالة مراهقة متأخرة تصيب بعض الأزواج الموسرين وتدفعهم لسلوكيات غير محسوبة تهدد كيان العائلة وتكاد تقتلعها من جذورها؟! عندما نفت كل الاحتمالات التي طرحتها الصديقات لحثها على البوح بعد أن أطبقت فاها بعد تصريحها المقلق، ثم خرجت الكلمات متكسرة من بين شفتيها لتعلن أنها تشعر بوحدة شديدة وغربة وأن علاقتها بزوجها تنهار دون سبب محدد وأن كلا منهما صار أشبه بجزيرة منعزلة، انهالت على رأسها التعليقات الساخرة واللوم والتحذير من البطر وصولا لتأكيد أن حالة الجفاف العاطفي بين الأزواج بعد مرور عقدين من الزمان أمر طبيعي وعلي رأي «الست» (وعايزنا نرجع زى زمان قول للزمان ارجع يا زمان). ورغم أن صديقتنا العزيزة وزمرتنا الرائعة التي جمعتها الصداقة الحلوة منذ الصبا مضين وهن يحاولن تجاهل الإحباط والوحدة في خريف العمر حفاظا علي بيوت وأسر بذلن من أجلها أحلي سنوات العمر، متأسيات بفرحة أبناء وذكريات عمر يوشك على أن ينتهي وأن ما عند الله خير وأبقى، فإن ما صرحت به الصديقة علي استحياء وسكتت عنه أخريات إما لتهدئة الموقف وعدم خراب البيوت أو عن اقتناع بالتجربة أو يأسا من إصلاح ما أفسده الزمن وأفسدناه بأيدينا، لا ينفي أن التصحر العاطفي بين الأزواج في خريف العمر مشكلة حقيقية لا تقتصر علي شرقنا، وأن ملايين البشر يواجهونها في كل مكان ولكنهم يختلفون في طريقة التعامل معها، فإذا كنا في شرقنا نتعمد تجاهلها ونستعين عليها بتراث طويل يعيب علي المرأة التعبير عن احتياجاتها العاطفية، خاصة عندما تتجاوز مرحلة المراهقة والشباب، ويحثها علي الصبر والحفاظ علي عمار البيوت، وعادات وأفكار تمنح الرجل صكوك غفران عندما يحاول تعويض احتياجاته العاطفية بعلاقات أو بزيجة أو أكثر، أو بانفصال الأزواج والشركاء في الغرب بصورة أو بأخري بحثا عن بداية عاطفية جديدة، فإن خبراء العلاقات الزوجية وعلم النفس تعاملوا مع الأمر بصورة علمية ربما تحمي بيوتا من الانهيار أو أملا أن تعيد الدفء لأخرى تحولت لواجهات براقة تخفي وراءها جدرانا خربة ونفوسا تعسة، فرغم أن ظاهرة الاغتراب العاطفي بين الأزواج، خاصة مع التقدم في العمر ظاهرة عالمية، فإن علماء النفس والعلاقات الزوجية يؤكدون أن الاحتياج للرابطة العاطفية بين الأزواج يصبح أكثر أهمية في تلك المرحلة، والمشكلة أن معظم الناس لا يدركون ذلك إلا بعد فوات الأوان بعد أن يكتشفوا ذات صباح أنهم باتوا غرباء تحت سقف واحد، فعملية الانفصام والانفصال العاطفي لا تحدث في يوم وليلة، ولكنها تتم تدريجيا وبصورة مستمرة علي مدي فترة زمنية طويلة جدًا، ولكن الأزواج في غمار مسئوليات الحياة اليومية والانشغال بالعمل وتربية الأطفال ورغبة في عدم إثارة المشاكل يتجاهلون أن كلا من الطرفين أصبح يسبح في اتجاه مختلف بعيدا عن الآخر.

وتوضح خبيرة العلاقات الزوجية ماريا حاكي في دراستها لمشكلة الاغتراب العاطفي أن الأزواج في البداية يغمرون بعضهم البعض بالمشاعر الإيجابية ويبذلون قصارى جهدهم لبناء علاقة قوية سعيدة، فيحرصون في البداية على أن يشاركوا الطرف الآخر كل كبيرة وصغيرة في الحياة. في هذه المرحلة  تكون العلاقة العاطفية بين الشركاء قوية جدًا وحتى الخلافات التي تظهر بين الأزواج لا تؤثر في إحساسهم بالأمن واستقرار العلاقة بينهما ولكن بمرور الوقت وثقل المسئوليات والضغوط اليومية والانشغال بالحياة اليومية وتربية الصغار ومحاولة خلق توازن بين الحياة الشخصية والأسرية والمهنية يهمل الزوجان الجانب العاطفي واحتياجات الطرف الآخر، ويوجهان الاهتمام والوقت لأمور أخرى دون أن يدركا أنهما يستنزفان رصيدهما العاطفي وأن حسابهما بات مكشوفا. والمشكلة أننا غالبًا لا ندرك ما يحدث إلا عندما تتباعد المسافات بيننا وعندها نفقد القدرة على السيطرة على مشاعرنا وردود أفعالنا، مما يفاقم الأمور ويحول المشكلة لعقبة يصعب على البعض تجاوزها لينتهي الأمر بالانفصال أو الاستمرار في زيجات فاشلة فقدت مقومها الأساسي، المودة والرحمة. 

والحقيقة أنه طبقا لخبرات الحياة وخبراء العلاقات الزوجية وعلماء النفس فإن الخلافات بين الزوجين أمر طبيعي بل صحي لكي يفهم الطرفان بعضهما. الأكثر من ذلك أن نشوب الخلافات بين شركاء الحياة الذين يتمتعون برابطة عاطفية قوية لا يهدد أمن أي من الطرفين أو يؤدي لعدم الثقة بالنفس أو بالطرف الآخر. وحتى إذا ما ساور أي منهما الشك أو طاردته الهواجس تكون حالة مؤقتة يسهل التغلب عليها. لكن العكس يحدث عندما تصاب العلاقة بالجفاف والشيخوخة، عندها تتحول تلك المخاوف لطاقة مدمرة تثير إحساسًا قويًا بعدم اليقين، وتؤدي إلى حالة من الذعر على مستوى اللاوعي مما يؤدي للانفعال المبالغ فيه وسوء الظن وزيادة الخلافات والتوترات بين الزوجين، لتتسع الهوة بينهما وتصبح العلاقة بينهما أشبه بـ«ناقر ونقير» دون أن يفهم أي منهما سبب ما يحدث أو يحاولا تغييره لمقاومة تصحر المشاعر.. كيف؟! هذا ما سنعرفه الأسبوع المقبل بمشيئة الرحمن.