كان فعل ماضٍ.. ولكن
كان فعل ماضٍ.. ولكن
مشاهدات: 42
3 مايو 2019

«كان فعل ماضي ما تسيبه في حاله/ و الماضي إحنا مالنا وماله» كلمات رددتها ليلى مراد وهي تغني «الدنيا غنوة /نغمتها حلوة» لتواسي الأستاذ حمام الذي لعب دوره عبقري التراجيكوميديا نجيب الريحاني، لتروي نظرات عينيه أحزان ماضيه التعس وتطلعا لحلم مستحيل التحقيق!. ورغم أن كلمات الأغنية التي جمعت بين الشجن وفرحة الحياة ما يزال صداها يتردد في سمع كثير منا، بل لعلنا تستخدمها بدورنا كلما استبد بنا الأسى، فتبدو وكأنها تحولت لحكمة أو لمثل يساعدنا على إزاحة أشباح الماضي ونسيان مواجعه، ولكن.. عفوا ليلى مراد فبعض علماء نفس اليوم يرفضون نصيحتك الذهبية ويقولون «كان فعل ماض لكن ..حذار أن تسيبه في حاله أو تتعمد أن تتناساه لتستطيع الاحتفاظ بتوازنك النفسي وتستعيد الثقة بالنفس».

والحكاية ببساطة أنه قبل ثلاث سنوات خرج علينا الخبير النفسي الأمريكي المتخصص في علم نفس الشخصية بجامعة نورث وسترن إلينوي « دان .ب. ماك آدمز» بدراسة بعنوان «الثالوث الشخصي»، طرح خلالها فكرة أن يقوم الشخص الذي يشعر بالتعاسة أو يتصور أن سوء الحظ يلاحقه، أو أنه على رأي سعد عبدالوهاب في أغنيته الشهيرة «ريشة في هوا»، بإعادة بناء ماضيه بشكل انتقائي خطوة خطوة، مؤكدا أن هذا الأسلوب يجعل الشخص يشعر وكأنه خطط لحياته أو بمعنى أصح «أن اللي صار» كان نتيجة طبيعية لأفعاله واختياراته وليس بسبب النحس أو سوء الحظ .

والحقيقة أن ما خرج به علينا السيد» آدمز» يعد تطويرا للفكرة التي طرحها عالم النفس» إريك إريكسون» في خمسينيات القرن العشرين عندما اعتبر أن النضج حالة تقترن برؤية الإنسان لحياته بمنظور الاستمرارية، وبتعبير أبسط ربط الماضي بالحاضر والمستقبل.

ويرى» آدمز» أن عملية «العلاج بمراجعة الحياة» يمكن أن تكون مفيدة من الناحية النفسية، وهي تقوم على حث الناس على التفكير في قصص حياتهم وروايتها. ويقول آدمز» قد تكون الهوية السرية لشخص ما قصة، بالكاد تكون على حافة وعيه!» ويضيف قائلا» الملاحظ أن بعض الناس يروون قصصهم بشكل أكثر صراحة من الآخرين». ولقد جرت العادة أن يتم تطبيق هذا العلاج على كبار السن والأشخاص الذين يعانون من مشاكل مسبقة مثل الاكتئاب أو الأمراض الجسدية المزمنة. وتشير الدراسات الأولية التي أجريت على الحالات التي خضعت للعلاج بهذا الأسلوب إلى أهمية ملاحظة سهولة أو تعقيد الحكايات التي يرويها الناس عن أنفسهم. فلقد اتضح على سبيل المثال، أن الأشخاص الذين يروون قصصًا أكثر إيجابية يميلون إلى التمتع باحترام أعلى للذات وبوضوح رؤيتهم للذات والقدرة على التخلص من مشاكلهم واستعدادهم لاستعادة الرغبة في الحياة.

ولقد دفعت هذه النتائج الأولية الباحثين لطرح المزيد من الأسئلة حول إذا ما كانت الكتابة والحديث عن الماضي لهما أثر إيجابي في الشخصية وإذا ما إذا ما كان العلاج بمراجعة الماضي مفيدا أيضا للأشخاص الأصحاء نفسيا وللشباب.

وفي مقال نشرته مؤخرا مجلة «الشخصية» الأمريكية، عرضت الباحثة الأمريكية «كريستينا إل شتاينر» من جامعة دينيسون بأوهايو نتائج الأبحاث التي قامت بها مع فريقها البحثي، مؤكدة أن الكتابة عن حياة الشخص، بغض النظر عن إيجابية أو بؤس هذه القصص، تؤدي إلى تعزيز متواضع ومؤقت لاحترام الذات. وروت الباحثة تفاصيل اختيار فريقها البحثي لثلاث مجموعات من المشاركين الأمريكيين عبر ثلاث دراسات، ضمت أول مجموعتين أكثر من 300 من الطلاب الجامعيين الشباب. أما المجموعة الأخيرة فتكونت من 101 من الرجال والنساء الأكبر سنا، بمتوسط عمر 62 عامًا. ولقد قامت نصف العينة بكتابة أربعة فصول في حياتهم وتأمل تتابعها وكيف يرتبط كل فصل بحياتهم ككل. بينما أمضى النصف الآخر من المشاركين الوقت نفسه في الكتابة عن أربعة من الأمريكيين المشهورين الذين يختارونهم للمقارنة من الناحية الفكرية، وتم توجيههم للتفكير في الروابط بين الأفراد الذين يختارونهم وغيرها من الأسئلة المماثلة. ولقد أظهر المشاركون الذين كتبوا عن فصول حياتهم زيادة ذات دلالة إحصائية، في تقديرهم لذاتهم، في حين أن المشاركين في المجموعة الضابطة لم يفعلوا ذلك. ومما أثار دهشة الباحثين أن هذه النسبة الطفيفة من الذين أظهروا تقديرا لذاتهم حدثت بغض النظر عن التقلبات المزاجية ونوعية القصص التي كتبوها والتجارب التي وصفوها بأنها مخيبة للآمال. 

وهنا تساءل فريق البحث عن المدة التي سيستمر فيها إحساس المجموعة الأولى بتقديرها للذات وكيفية استمرار هذا الإحساس، وهل يمكن أن يتحقق ذلك من خلال تكرار التمرين؟ وهنا جاءت الدراسة الثانية لتكشف أن الأثر استمر ليومين فقط!

ورغم أنه من غير الواضح بالضبط لماذا لم تستمر النتيجة الإيجابية التي فسرها البعض بأن الكتابة والحديث لهما تأثير مهدئ ويضعان الأمور في حجمها الطبيعي فتتقبلها النفس، فإن شتاينر وفريقها البحثي لا يزال الأمل  يحدوهم  في أن تتحقق فائدة تراكمية من خلال استمرار تجاربهم. وإذا كانت شتاينر ومجموعتها البحثية لا تزالان تبحثان وتستعدان للمزيد من تجارب» العلاج بمراجعة الحياة»، فلماذا لا تفتح أنت كتاب حياتك وتستعيد بعض فصوله، فإما أن تستريح ولو ليومين أو تتمسك ببقية أغنية ليلى مراد «والماضي إحنا مالنا وماله».

الأكثر قراءة