الصابون (3)
الصابون (3)
مشاهدات: 210
29 أكتوبر 2018

في الخارج، كان ثمة صمتُ اللحظات الطوال. خواء هادر، وذاك هو الذي يخيفها أكثر مما يفعل الضجيج والصخب. لأن الصمت يشير إلى أن الدكتور كان قريبًا أكثر بصورة ما. راحت تتساءل عن الدكتور. يبدو مختلفًا هذا المساء، كانت «آنّا» تفكر. الطريقة التي ترك بها التوءمين يمضيان بمزاحهما الخشن، وكيف غفر جريمة أن يكون الماء فوق أرضية البسطة، وكل تلك الجلبة التي كانا يعملانها، كأنهما اثنان من الغجر! مرة واحدة، حينما دخلت البيت لأول مرة قبل عشرين عامًا، تتذكّر أنها رأته ليّنًا وضعيفًا مرة واحدة فقط. وكم يؤلم قلبها تذكر ذلك اليوم، حين كان البيت ممتلئًا بالأطباء والممرضات. وفجأة، كأن شخصًا ما قد كنس غطاء المائدة، لم يعد هناك أي إنسان، وكانت السيدة قد ماتت. أُخذ الأطفال بعيدًا. هي تتذكر الآن، التوءمان وصوفي، ذهبوا إلى الريف مع والدي الدكتور. وأصبح البيت خاليًا إلا من الدكتور وهي. ظلت «آنّا» المربية تبكي في المطبخ حتى أصبحت أضعف من أن تبكي مجددًا. كانت حنجرتها تؤلمها من الجهد الذي كاد يخلعها. كانت «آنّا» تفكر في أن الدكتور دائمًا فائق الإتقان. كان دائمًا نموذجًا للرجل، فيما عدا تلك الليلة، حينما وجدته منهارًا ومتكومًا على أرضية القاعة، غارقًا في الثمل، وملابسه ملطخة. «ساعديني يا آنّا»، همس الدكتور بخجل. رفعته بين ذراعيها وحملته إلى السلالم. دفعها بعيدًا وتركها، يشد نفسه من درجة إلى درجة مستندًا على أعمدة الدرابزين، متعثرًا. مشهد مفزع، اجتاز بسطة السلم ثم داخل غرفة النوم حيث كانت السيدة. كانت تريد أن تلحقه لتُحمّمه كي يفيق. كانت تودّ أن تغسله كي ينظف، تخلع ملابسه وتكومها وتلقيها بعيدًا وتعطيه شيئًا جديدًا ليلبسه؛ تعامله كطفل لوّث بنطاله. كان يجب أن تموت معها، تتذكر «آنّا» وتفكّر. كان عليها أن تموت مع طائرها الصغير. لأن فقدها كان يُمتص في فقده. كانت تتذكر كل هذا وهي تشكّل خليط الطحين في هيئة كريات صغيرة من الزلابيا، تنقّطه مثل البيض مع بذور الكراوية، وتزيحها على جانب واحد، وهي تعلم أنها سوف ترتفع وتطفو فيما تنضج. لقد ربّت السيدة، مثل الدمية أول الأمر، وبعد ذلك مثل الشقيقة، ولكن ألمها كان كله من أجله. ربما مؤلم دائمًا أن تُترك. لكنها أيضًا قد تُركت. والآن هناك صوفي. الوقت متأخر عن المعتاد، والشوارع بالفعل قد أظلمت، والسماء ممتلئة  بالوعيد. 

كانت تفرد المائدة لوجبة الغداء حينما دخل الدكتور ليتكلم معها. كانت تضع الكؤوس اللامعة بجوار كل طبق. ستائر التعتيم قد أُسدلت والصور على الحائط تتراقص في ضوء الشموع على المائدة، تمامًا مثلما يفعلون حين يكون لدى الدكتور أصدقاء يتناولون معه الطعام. في تلك الآونة حتى صوفي كانت تُرسل بعيدًا لتأكل في المطبخ مع «آنّا» والأولاد. المطبخ دائماً هو الأكثر هدوءًا من بقية المنزل. ولم تفهم قط ما السبب. ربما زجاج النافذة كان أكثر سُمكًا في هذا الجزء من المنزل. يداها تربتان على غطاء المائدة المغسول المكوي فيما تنتظره كي يبدأ. تعرف أن شيئًا سيئًا يوشك أن يقع، تعرف كما يعرف القرويون. 

ولذلك حين أخبرها بأن الأسرة سوف ترحل للمدينة مع نهاية الأسبوع لم تندهش مطلقًا، بل ارتاحت. شعرت بوجهها يسترخي. هذا أفضل كثيرًا مما توقعت، ظلّت لشهور تنتظره أن يقرر أن يأخذهم جميعهم إلى مكان آمن. هذه الأيام، حين تخرج في الصباحات كي تبحث عن طعام، من كشك نصف فارغ إلى آخر، دكاكينها المفضلة مغلقة وعلى أبوابها مزاليج، فتشتري أيًّا ما تستطيع أن تجده، تشعر بأنهم الأسرة الوحيدة المحترمة الباقية في المدينة. هذه المدينة الجميلة، الآن يملؤها الغبار في كل مكان والنساء يكنسن الأرصفة وعربات الترام، بينما الشوارع الواسعة ظلّت كما هي تلك التي روعتها كثيراً وهي طفلة. والآن عليهم جميعاً أن يرحلوا. راحت بالفعل في عقلها تحزم حقائب التوءمين، تطوي بلوزات صوفي وتطوي شرائطها بين ثنايا النسيج. الدكتور يتوقف. «لكنك سوف ترحلين الليلة»، قال لها. هناك قطار في الساعة الثامنة، سوف يأخذك إلى البلدة. فمُها يقول لا، لكن لا صوت يخرج. تشعر بعظام ظهرها تتيبس. 

(البقية الأسبوع المقبل)

الأكثر قراءة