القطن.. حدوتة ستات
القطن.. حدوتة ستات
مشاهدات: 399
26 يوليو 2018

للقطن معي حكاية أظنها لا تختلف كثيرا عن حكاياتكم معه إلا في بعض تفاصيل خاصة مستقاة من واقع تجارب حياتية وإن عايشها البعض بحذافيرها أو جزئيا، يختلف وقعها على نفس كل منا طبقا لطبيعة شخصيته. حكاياتي مع القطن بدأت في زمن بعيد يوم انتهت أمي رحمها الله من تثبيت آخر زر في صدر ثوبي الأبيض الذي صنعته بيديها وألبستني إياه. أحسست بنعومته واستخفني فرح اقترن بدهشة الاكتشاف عندما تطايرت أطرافه مع الهواء وكأنها ستحملني لسماء زرقتها تشبه أزرار فستاني.

في حصص الجغرافيا عرفت أن قطننا المصري طويل التيلة ويمثل عنصرا مهما من اقتصاد مصر، وفي حصة الفلاحة لمسته بأناملي وحولته لوسادة لإنبات بذور الحلبة. عبر المذياع سمعت ثومة تغني «القطن فتح/ والرزق جه وصفا لنا البال/اجمعوا خيره مالناش غيره يغني البلد ويهني الحال» وأصوات أخرى تشدو «نورت يا قطن النيل.. يا حلاوة عليك يا جميل»، ومن أفلام الأبيض والأسود عرفت أن بورصة القطن حولت معدمين لأثرياء وكانت سببا في إفلاس البعض الآخر وأن جمعه موسم الأفراح والليالي الملاح في ريفنا المصري.

في سفرتي الأولى للولايات المتحدة رأيت تيشيرت لا يختلف عن ذلك الذي أرتدي، ليمتص حرارة ورطوبة صيف ولاية الينوى، إلا في رقم الدولارات التي أجبرتني أن أشهق وأنطق بالعربية بصوت مسموع لفت أنظار رواد المتجر»إيه الجنان ده!».. بعدها عرفت أن التيشيرت العالي المقام والسعر مصنوع من القطن المصري مما دفعني للتمسك لآخر لحظة بكل ما حملته معي من مصر من ملابس قطنية ليس فقط لمغالبة الحر ولكن أيضا للتباهي بمنتج مصري يدفع فيه الأثرياء مئات الدولارات.

هذه حكاياتي باختصار مع قطن النيل والتي أضيفت لها حواش في رحلة العمر عن ثراء أبناء الجنوب الأمريكي الذين اشتغلوا بزراعة قطن سخروا فيها عبيد نقلوهم بطريقة أو بأخرى لما وراء البحار واستخدام القطن كقوة اقتصادية أدت لحروب و.. و .. وفي كل هذه التفاصيل لم يجل بخاطري ولو لمرة واحدة أن القطن الأبيض أيا ما كانت جنسيته كان سببا في تغيير عادات وقيم المجتمعات أو أنقذ حياة ملايين النساء ومنحهن حقوقا ومكانة اجتماعية ولكن.. هذا ما حدث بالفعل! ففي دراسة أجرتها الباحثة ملينا مينج في قسم الاقتصاد بجامعة «نورث وستيرن» في الينوي أثبتت أن صناعة القطن أدت إلى تغيير أوضاع المرأة في الصين واكتسابها مكانة في أسرتها وأنهت عصر ازدراء المرأة وقللت عمليات الإجهاض للتخلص من إناث الأجنة.

تقول الباحثة: «في عالم ما قبل الثورة الصناعية كانت المرأة العنصر الفاعل في صناعة النسيج «، وتستشهد بما كتبه أ. و. باربر في كتابه «المنسوجات في عصور ماقبل التاريخ» إذ قال: «هؤلاء النسوة أمضين كل لحظة في الغزل والنسج والحياكة، فقبل تقدم صناعة المنسوجات القطنية اهتمت المرأة الصينية بصناعة المنسوجات الحريرية وعندما بدأت صناعة المنسوجات القطنية في الصين في عام 1300 استخدمت المرأة تكنولوجيا أكثر تقدما في الغزل والنسج، وفي عام 1840مثلت تجارة المنسوجات القطنية ربع تجارة الصين..» وتوضح الباحثة أن انتعاش صناعة المنسوجات القطنية كان البوابة الملكية للمرأة؛ إذ إن ارتفاع دخلها نتيجة صناعة تمارسها في المنزل وعلى مستوي أسري أسهم في تحسين وضعها الاجتماعي واعتبارها قوة منتجة مفيدة في الأسرة. وفي بحثها عن جواب لسؤال أطروحتها «هل أثرت ثورة القطن في المعتقدات الثقافية حول المرأة؟» تستدل بالنموذج الذي ناقشه المؤرخ كينيث بوميرانز إذ قال إن كسب المرأة ما يكفي من المال لإعالة أسرتها أو نفسها أنتج «اقتصاديات الاحترام»، فباتت الأرامل في مناطق إنتاج القطن والمنسوجات أقل عرضة لإنهاء حياتهن عند وفاة أزواجهن. كما تشير الباحثة إلى دراسة استقصائية أوضحت أن الرجال في المناطق التي تعمل فيها المرأة في صناعة المنسوجات القطنية يعتقدون أن النساء يتمتعن بكفاءة الرجال نفسها.

وتنتقل الباحثة لسؤال إذا ما كان التغيير الذي أحدثه العامل الاقتصادي بعمل المرأة في صناعة المنسوجات القطنية استمر أم تلاشى بعد عام 1840عندما أصبح إنتاج المنسوجات القطنية التقليدية أقل أهمية من الناحية الاقتصادية بسبب المنافسة الشديدة من الواردات البريطانية. ومن خلال دراستها الميدانية تكشف الباحثة أن عملية الإجهاض الانتقائي للأجنة في المناطق التي لها تاريخ في عمل المرأة بصناعة الغزل والكسب كانت أقل بالنسبة للأجنة الإناث، وأن النسبة الأكبر من  المتزوجين لم يروا غضاضة في أن تكون الزوجة رئيسة للأسرة، مما يشير لاستمرار التغيير الذي أحدثه إسهام المرأة اقتصاديا وأن الأثر الثقافي امتد ولم يكن مرهونا بفترة ازدهار صناعة المنسوجات القطنية التي واجهت فيما بعد مشاكل كما جاء من قبل. وتخلص الباحثة إلى أن ثورة القطن في الصين أدت إلى تحويل المرأة لطاقة منتجة قادرة على الكسب، الأمر الذي انعكس بدوره على الأوضاع الاجتماعية وعلى المعتقدات الثقافية حول قدرة المرأة وتبني نظرة أكثر إيجابية حول المرأة بشكل عام. وهكذا عزيزي القارئ تثبت الباحثة الصينية أن القطن كما قالت ثومة لم يكن فقط سببا في الرزق وثراء البلاد والأسر، ولكنه أيضا على مستوى الأفراد كان سببا في «هنا الحال وصفاء البال» وإنقاذ حياة وأرواح نساء لمجرد أنهن تحولن لطاقة منتجة، فغيرن وجه المجتمع وثقافته.. نقول تاني؟!

الأكثر قراءة