أبو الكرم "1"
أبو الكرم 1
مشاهدات: 442
12 يوليو 2018

للكرم والبخل حكايات وروايات قرأت عنها وسمعت بها مثل كثيرين غيري، وربما أثارت تعجبنا أو فجرت ضحكاتنا آنذاك لكنها ما لبثت أن توارت تفاصيلها ولم يبق حاضرا منها في الذاكرة سوى اسم حاتم الطائي وعبد الله بن جدعان رمزين للكرم واسم الكندي الذي أورده الجاحظ في كتابه الشهير «البخلاء» باعتباره أبخل خلق الله. مع ذلك يظل الكرم أو شح النفس صفتين لصيقتين بالبشر في كل زمان ومكان وإن تسيدت إحداهما الأخرى بين الحين والآخر ظاهريا لأسباب متعددة، منها على سبيل المثال قواعد اللياقة الاجتماعية أو الشعائر الدينية التي قد تضطر شحيح النفس لحل كيسه والإنفاق بينما يكاد قلبه يتفطر حزنا علي كل جنيه يجود به! كذلك يتخذ البخل مظاهر مختلفة بعضها مادي والبعض الآخر معنوي مثل البخل في التعاطف وإبداء المشاعر. القول نفسه ينطبق على الكرم، فقد يكون مقصورا علي توجيهه لأفراد الأسرة الصغيرة أو لصاحب منصب أو سلطة نرجو منه فائدة، بينما يتجلى شح الأنفس مع الأضعف ومن لا حول له ولا قوة!.

المؤكد أن الفضائل والصفات المذمومة في البشر أمور معقدة من العسير الحكم عليها سطحيا لأنها تنطوي على أكثر من مجرد السلوك الخارجي. كما أن الأفكار والمشاعر والدوافع الكامنة في الشخصية تلعب أيضا دورا مهما في تحديد ردود الفعل والسلوكيات. الأكثر من ذلك أن الظروف المحيطة بالشخص وبالحدث غالبا ما تلعب دورا مهما في تحديد السمة والسلوك المواكبين لها. علي سبيل المثال، إذا ما ارتطم أحد بسيارتك واعتذر بطريقة مهذبة وكنت أنت في حالة مزاجية طيبة ومادية تسمح لك بإصلاح العطب دون مشقة، فغالبا ستتصرف بكرم وينتهي الموقف بسلام، أما إذا أساء المخطئ الأدب أو لم تملك المال اللازم لإصلاح السيارة فسيكون رد الفعل مختلفا. كذلك تمتلئ ساحات المحاكم بقضايا نفقة الصغار التي يتهرب منها بعض الأزواج الذين لم يبخلوا قط على الزوجة والأبناء بكل عزيز وغال أثناء قيام العلاقة الزوجية، ولكنهم فجأة يصابون بداء شح النفس، كبرا وقهرا للزوجة، غير مبالين بتأثير ذلك البخل في نفسية ومستقبل صغار لا حول لهم ولا قوة، يحملون اسم أب تحول لكندي جديد تفوق على سلفه عندما  بخل على أقرب ذويه.

ولعل ما سبق يدفعنا جميعا إلى أن نسأل: إذا ما الكرم؟ وهل هو سمة فطرية أم أنها مكتسبة؟ ومن الذي يستحق أن نطلق عليه أبو الكرم ؟! هل هو بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت الذي تبرع بـ 27 مليار دولار ليحتل المركز الأول في قائمة بيزنس انسايدر «خبايا عالم الأعمال» لعام 2015 التي اختارت عشرين شخصية باعتبارهم الأكثر كرما في العالم؟! هل يعد رجال الأعمال وأصحاب الثروات الذين يقيمون موائد للرحمن في رمضان أو يتبرعون للأعمال الخيرية ويحتفظون بإيصالات التبرع لتقديمها لمصلحة الضرائب أكرم من «عم محمد» الذي أخرج قيمة الزكاة التي حددتها دار الإفتاء هذا العام بـ 13 جنيها؟! 

قد تبدو الأسئلة سخيفة وربما غير لائقة وكأننا نفتش في ضمائر الناس أو نجحد عليهم النعمة، ولكن الأمر عكس ذلك تماما، فهو مجرد محاولة للغوص في معاني الأشياء وتحديدها بشكل علمي لنعرف أنفسنا على حقيقتها ونحاول التعامل مع تقلبات نفس ألهمها الرحمن فجورها وتقواها.

يقول البروفيسور كريستيان ميلر، أستاذ الفلسفة بجامعة ويك فورست في نورث كارولاينا، في كتابه» فجوة في الشخصية.. هل تقييمنا لأنفسنا صحيح؟! «عندما نتحدث عن الكرم لابد من أن ندرك أنه أمر بالغ التعقيد ولا يمكن أن يقتصر تعريفه على التبرع بالمال والموارد باستمرار، ويجب أن يدلي الفلاسفة بدلوهم في هذا الشأن  لمساعدتنا على الإجابة عن هذا السؤال، أو بمعنى آخر تحديد مفهوم الفضائل الشخصية، خاصة بعد أن أصبحت محل اهتمام كبير في العقود الأخيرة ومحورا لأبحاث أكاديمية ومقالات في المجلات المتخصصة في الفلسفة، وكان من بينها عدد قليل تناول مفهوم السخاء منذ عام 1975.

ويبدأ البروفيسور ميلر رحلته لتحديد معنى واضح للسخاء ومن أحق بأن ندعوهم «كرماء» بتحديد ثلاثة عناصر لتقييمه، وهي كالآتي: الهدف من التبرع، والسمات المصاحبة للكرم مثل التراحم والتواضع والمغفرة والإيثار لا الأثرة، وهل التبرع ينبع من شعور بالالتزام الأخلاقي أم حالة مظهرية، وهل ما يقدمه الشخص يحتاج إليه الآخر أو هو ما يتمنى الحصول عليه؟! قائمة طويلة من العناصر والأسئلة التي يطرحها الباحث ويدعمها بأمثلة من الواقع، سنتابعها معا الأسبوع المقبل لنعرف إن كنا نستحق بالفعل أن نصف أنفسنا بالكرم أم أن علينا أن نحذر شح الأنفس.

الأكثر قراءة