حالة فنية
حالة فنية
مشاهدات: 987
15 يونيو 2018

في خضم  حصار إعلانات تتخللها مقاطع مبتورة من سيناريوهات تم التعامل معها بمنطق القص واللزق لاستكمال ثلاثين حلقة، أهداني القدر ليلة فنية مختلفة أزاحت عن صدري هم مسلسلات وإعلانات باتت تقفز في وجوهنا «زى قرد قطع» حتى علي اليوتيوب!!..

 بعد الإفطار شددت الرحال واتجهت لدار الأوبرا لأشاهد عرضا مسرحيا بعنوان «مركب بلا صياد» أعده المخرج والفنان الشامل عمرو قابيل عن مسرحية للكاتب الإسباني ليخاندرو كاسونا ..بوصولي لساحة الأوبرا عضضت بنان الندم ..لماذا تماديت في إيذاء نفسي واستسلمت ليأس وإحباط ولدهما ساعات أمضيتها أمام شاشتي تليفزيون وكومبيوتر، محصلتها ألفاظ وإشارات جسدية فجة ومطاردات عبثية ورصاص ودماء وصور من حياة لا توجد حتى في بلاد العم سام؟! الساحة عامرة بأسر وأطفال التفوا حول مسرح للعرائس يقدم رائعة صلاح جاهين وسيد مكاوي الليلة الكبيرة، وفي ركن ناء اجتمع مجموعة من الشباب حول عازف عود يؤدون معه مجموعة من أجمل أغنيات زمن اهتم فيه الملحن بطبقة صوت المؤدي وحرص الثاني أن يعبر بصوته عن معان اختارها الشاعر بحساسية ..و..و.. 

انتظرت أمام المسرح لحين موعد بداية العرض ..تداعت للذاكرة مشاهد من المسرحية التي ترجمها محمود علي مكي في ستينيات القرن الماضي وأخرجها للبرنامج الثاني في سنوات ازدهاره الشريف خاطر..تري هل يستسيغ جمهور رمضان هذا العمل الذي تتوثب من بين سطوره رؤى وأفكار فلسفية لا تزال تؤرق من يجسر من البشر علي فتح مغاليق الصندوق ليكتشف ما بداخله؟!

الغواية.. فكرة لطالما أرقت البشر من قديم الأزل، لم يكتف الإنسان بما ورد بشأنها في الديانات السماوية والوضعية، فظل السجال بين الإنسان والشيطان والصراع بين غواية متاع زائل وبين سكينة النفس وفردوس مفقود مصدرا لإلهام المفكرين والمبدعين علي مر العصور، بداية من أبي العلاء المعري وفردوس جون ميلتون المفقود وفاوست جوته وصولا لفيلم سفير جهنم ليوسف بك وهبي ومن بعده زكي رستم في فيلم موعد مع إبليس  ..مع ذلك فمسرحية ليخاندرو كاسونا لا يمكن اختزالها في تحالف حقيقي أو وهمي مع الشيطان، فما بين السطور وفيما يدور علي لسان شخصيات المسرحية تتناثر أسئلة شائكة عن الموت والحياة ومعني أو عبثية كليهما والاشتياق للرفقة والأمان مقابل الشعور بالقهر، عندما لا يستطيع المرء أن يبوح أو يثأر لنفسه ولمن يحب أو أن يعفو ويغفر..

فيما كنت ابحث لنفسي عن مقعد يمكنني من متابعة الحركة علي المسرح، وهي مهارة تعلمتها من ملاحظة شقيقتي وأستاذتي وأمي د.نهاد صليحة رحمها الله، لم أستطع أن أحول نظري عن خشبة المسرح التي ركزت الإضاءة الخافتة علي أدق تفاصيلها ..فالنافذة وصورة الفنار والمنضدة والكراسي الخاوية وصوت الأمواج المنسحبة عن الشاطئ واللهب الأحمر المنبعث من مدفأة الذي لا يمنح دفئا ولا حميمية للمكان، وكأنه يعكس حالة الغضب والقهر الذي تعيشه ربة البيت والحضور الدائم لمشهد دماء الزوج التي أريقت بسبب الصفقة المشبوهة مع الشيطان وغيرة وطمع زوج الأخت، كلها تشي وتمهد للأجواء التي سينتقل إليها المشاهد بعيدا عن صخب ساحة الأوبرا ..

 عندما اكتشفت قلة عدد الحضور في المسرح انتابني خجل شديد وتذكرت كل ما قاله المسرحيون عن أهمية التواصل مع الجمهور، فهل يستطيعون؟! سرعان ما تبخرت كل تساؤلاتي، فرغم بطء إيقاع المشهد الأول إلا أن خشبة المسرح سرعان ما تحولت لصورة حية صاخبة تجسد إحساس صاحب الصفقة المشبوهة بالذنب ووجع الزوجة المكلومة (رندا) التي رأت زوجها يقتل يوم حقق حلمه بامتلاك مركب فقدت ربانها وتحولت لشاهد علي المأساة والشقيقة (مي رضا) التي تفقد إحساسها بالأمان باكتشافها لحقيقة زوجها والجدة العجوز (منحة زيتون) التي تحتفي بالحياة في أدق تفاصيلها ولو بحلم إضافة طبق ثالث لمائدة غيب الموت صاحبها وتشاغب الصياد العجوز المبدع (إبراهيم فرح) الذي أعاد  لذاكرتي صورة الطواف في مسرحية عائلة الدوغري لنعمان عاشور، فهو في خروجه وعودته ومشاغباته مع الجدة المقابل للشبكة المعلقة بجوار القنديل وتلك التي ترتقها البطلة ومن بعدها شقيقتها كأنهما لم يكتفيا بالاستسلام والرقص كالطير المذبوح في فخ وشباك الموت والخوف والحلم المجهض بالثأر بل أيضا تغزلان المزيد منها لتستمر الدائرة الملعونة.. 

ويعد المشهد الثاني الذي جمع بين رجل الإعمال الفاسد (عمرو قابيل) والشيطان (هاني عبد الناصر) من أقوي مشاهد العرض، إذ يتسارع الإيقاع وتعج خشبة المسرح بالحياة والحركة في كل جوانبها من خلال مباراة في سلاسة الأداء تفجر كوميديا صارخة تنبع من التناقض بين تداعيات الاختيار المصيري وبين المفارقة اللفظية التي تمتزج بخفة حركة الممثلين ومرونة جسدية تتوافق مع الموسيقي والأداء الغنائي لتجبر المشاهد علي ملاحقة حركة قابيل وهاني ومتابعة حجج شيطانية أكسبها أداء هاني حالة من المعاصرة، بقدر ما فجرت الضحكات بقدر ما قلبت المواجع. ولقد أسهمت  المؤثرات البصرية والسمعية، إضافة للأداء المتميز لفريق العمل في نقل ما يدور في أعماق شخصيات وتكثيف الإحساس بالتطور الدرامي لكل شخصية وتخففها حتى بألوان الملابس من أحمال ماض مؤلم ..فكانت رقصة الخاتمة بين راندا وعمرو قابيل والمائدة التي جمعت شخصيات العمل دعوة لانتصار الحياة وما يعطي لها من معني وتأكيد أن هؤلاء النجوم الذين يبخلون بفنهم ولا بجهد حقيقي_ رغم محدودية المشاهدين _فقدموا رؤية أعمق للحياة، يمثلون حالة فنية حقيقية تستحق المشاهدة والتقدير.

الأكثر قراءة