أبيض وأسود
أبيض وأسود
مشاهدات: 410
18 يوليو 2017

يقترب الليل من النهاية، يلامس أطراف الفجر الوليد.. تخترق نغمات الجمال النائم لتشايكوفسكي سكون الكون وسكوني.. تأتيني أطياف الذكرى من البعيد القريب كسرب عصافير بيضاء قادم من السماء في رفرفات متحمسة لاهثة صوب الأرض.. صوبي.

ثوب أسود.. هذا هو كل ما أريده!

لماذا يا أمي؟.. إن الله قادر على كل شىء.. لماذا تتوقعين الأسوأ ولا تتشبثين بخيط الأمل؟

لم تندمل جروحها أبدًا منذ أن خدش كبرياء الأنثى داخلها، كرهته بجنون مثلما أحبته بجنون.. ولم يفرز الجرح العميق سوى المرارة والحقد.. فعاشت تتمنى القصاص الإلهي، وتؤمن.. في إصرار أنه – يومًا ما – لابد أن يحدث.

جاءها الخبر، تضاربت داخلها المشاعر مختلطة عجيبة ومتناقضة.. حزن، فرح، شماتة، شجن، شر يتسكع في فضاء خيالها، ويرسم صورًا لنهاية مفجعة أليمة – حان وقتها لرجل قتلها وهي حية لا تزال.

أتعاطف معها أحيانًا، فكل الجروح يمكن أن تندمل إلا جروح القلب لكني أجد نفسي في أحيان أخرى حائرة في فهم هذه السيدة أسائل نفسي:

- هل تحبه، أم تكرهه؟، وأتذكر آراء المحللين النفسيين: إن الكراهية العنيفة هي الوجه الآخر لحب عظيم.

كنت ذاهبة إلى أبي في العاصمة الأوروبية وكان يقضي أيامًا عصيبة في محاولة طبية شبه يائسة لانتزاعه من أنياب الموت.. وطلب رؤيتي قبل الرحيل.

قبلتها في عناق حميم، ورجوتها أن تغفر له وتدعو الله أن يشفيه إن لم يكن من أجله فمن أجلي أنا.. قلت لها: أتحبين أن أعيش يتيمة الأب، بلا سند؟

ودعتها ووعدتني بأنها سوف تفعل لكنها استوقفتني عند باب الشقة وقالت: لكن لا تنسي الثوب الأسود!

في المستشفى الأوروبي وعلى سريره رأيت الموت يتمشى في عينيه، والشبح المخيف يطفو في فضاء الغرفة، كانت المرأة الأخرى إلى جانبه تبكي بحرارة.. وفي لحظة رأيت وجه أمي تبكيه وتشد على يديه، وتتمتم متوسلة إلى الله أن ينقذه.

فركت عيني فعاد وجه المرأة الأخرى واضحًا جليًا، مرت لحظات حرجة بعد الجراحة الخطيرة فآثرت العودة إليها، في الليلة الأخيرة في هذه المدينة الأوروبية تذكرت طلبها الوحيد: الثوب الأسود.. نزلت، مررت على نوافذ العرض أبحث عن ثوب أسود أنيق.

غرق نظري في عيون «الموديل» الخشبية التي ترتدي ثوبًا أسود جميلاً وأنيقًا.. وفي لحظة خرجت أمي من نافذة العرض ترتدي الثوب الأسود وتمشي منتشية في جنازة طويلة.. أنظر في عينيها فتشع نظرة عجيبة، أرى فيها نشوة الانتصار، بينما أرى نفسي منخرطة في بكاء حار.

أسافر عائدة إلى أمي أحمل الثوب الأسود، تفرح به، وتظل ترتديه كل يوم، وتقف تتأمل نفسها أمام المرآة كأنها تتدرب على دور في مسرحية.

وفي صباح ذلك اليوم، أستيقظ متأخرة، أدخل إلى غرفتها متعجلة لأودعها قبل النزول، أراها في كامل زينتها تجلس على المقعد الوثير المواجه للمرآة، وتلقي رأسها إلى المسند الخلفي في استرخاء، بينما تفوح منها رائحة عطرها المميز.

أقترب منها أضع على جبينها قبلة الصباح، فلا تتحرك، أهزها فلا يستجيب جسدها، ويعود إلى مكانه في تراخٍ.. أقترب منها لأسمع صوت أنفاسها فيسقط في قلبي صوت السكون.

أنظر إلى عينيها، فيدهمني الحزن مخزونًا وساكنًا.. أعود لأهزها من جديد فلا تتحرك..!.

الأكثر قراءة