يقين سناء البيسى
يقين سناء البيسى
مشاهدات: 2017
20 مايو 2019

فى كتابها الأخير «عالم اليقين» الصادر عن دار نهضة مصر فيما يزيد عن 600 صفحة من القطع الكبير، تقدم سناء البيسى عملا ملحميا، يضم مختلف أنواع الكتابة، التحقيق الصحفى والتوثيق والأرشفة والسير الذاتية والتحليل والمقال، وتعطينا ضخامة الكتاب مجرد فكرة صغيرة عن حجم موهبة البيسي التي تليق برائدة من رواد كل أنواع فنون الورقة والقلم.

بروح متصوفة متشوقة للتأمل والتعلم فى الوقت نفسه، تضع البيسى يدها فى عوالم الدين الإسلامى، وبمجهود يمكن تخيل حجمه، ورقة يمكن لمس أثرها، وخفة يد تجعلك أسير الكتاب حتى تصل إلى صفحة الفهرس، تتنقل البيسي بين مختلف المناطق التى تتلامس مع الإسلام، تفعل ذلك كمسلمة تحمل الجنسية المصرية، فهى تسير خلف السيدة عائشة مسيرة حياتها التى بلغت سبعين عاما تلملم تراث حبيبة سيدنا النبى وتغزل به قصة حب، وفى الوقت نفسه تتبع آثار الشيخ محمد رفعت كواحد من مؤسسى دولة تلاوة القرآن فى مصر والوطن العربى.

لم تترك البيسى ميدانا إلا واقتحمته بمهارة عارمة وجهد يليق بكاتب شاب يبدأ طريقه، جهد لا يعرف غرور أو تعالى الكتاب الكبار ولكنه مليء بالمشقة التى تسعى إلى فتح أبواب المجد، تجاهلت البيسي كل الأبواب التى فتحتها طوال مسيرتها، وأخلصت لمحاولة جديدة للنجاح وكأنها تبدأ من الصفر وهذا هو أحد أسرار قيمة «عالم اليقين» كعمل يضم فنونا مختلفة من بينها فن عمل كتاب.

من مسيرة سيدنا إبراهيم إلى جماليات امتحان الصبر الذى ذاق سيدنا أيوب علقمه، من نظرة المستشرقين لتجربة سيدنا النبى، لتجارب سيدنا النبى مع نساء بيته من السيدة آمنة إلى خديجة، إلى أثر النبى فى أحفاده متأملة مسيرة سيدنا الحسن ثم سيدنا الحسين.

تتوقف البيسي لتتأمل تجربة سيدنا عمر بن عبدالعزيز، تصنع من موهبة خامس الخلفاء الراشدين فى أن يكون عادلا ورحيما، تصنع منها «كتالوج» يمكن التعلم منه، كما يمكن التعلم من رقة البيسى وهى تغزل مفردات التجربة، سحر ما يجعلك تفيق على السطور الأخيرة التى تقول إن الرعاة فى الجبال  عرفوا أن عمر بن عبد العزيز مات لأن الذئاب الجائعة التى اختفت طوال فترة حكمه قد عادت إلى الظهور.

تبدأ البيسي رحلتها فى كل البقاع والأماكن التى مرت بها الدعوة وأثر كل بقعة فى مسار الإسلام، وتنهى رحلتها بين مكة والمدينة لتبدأ واحدة جديدة فى بحور أئمة الدين الكبار، توثق تجربتهم وعلومهم وإنسانيتهم، بداية من الإمام مالك وتكشف لماذا لا يُفتى غيره وهو فى المدينة، إلى إمام أهل الرأى أبو حنيفة النعمان، ومن الإمام الشافعى إلى الطريقة التى أثبتت بها البيسي أن الإمام أحمد بن حنبل لم يكن حنبليا.

ثم تنتقل سناء البيسي بهمة صحفية إلى نصيب مصر من العلم، فتتبع مسيرة الأزهر الشريف وأثره، وأثر رجاله، وهى فى ذلك توثق تجربة عمر مكرم ثم الإمام محمد عبده، فالشيخ مصطفى عبد الرازق، وتمر على تجربة طه حسين فى هذه المنطقة، وتنتقل منها إلى الباقورى فالشيخ عبد الحليم محمود ثم تتوقف بعين فاحصة مدققة أمام تجربة الشيخ الشعراوى.

وما إن تهبط البيسي أرض مصر حتى توثق وتعيد غزل ونسيج تجارب المؤثرين من المقرئين الشيخ رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل، إلى تجارب المفكرين من بنت الشاطئ الدكتورة عائشة عبد الرحمن إلى خالد محمد خالد.

تمتلئ تجربة «عالم اليقين» للكاتبة الكبيرة سناء البيسى بمئات الرسائل الضمنية، فى الرحمة والعدل والتفكر والقدرة على التذوق، وهى فى الوقت نفسه تقدم الكثير من الرسائل المهنية، فى التدقيق والتوثيق وتتبع المصادر وأفضل طريقة يمكن للكاتب أن يطبخ بها المقادير المتوافرة لديه، دروس فى السيطرة على اللغة وتحويل المعلومة الخشنة لماء يجرى بين يدى القارئ.

يسأل الواحد نفسه كثيرا عن سر معجزة سناء البيسى، فهى ليست صحفية ولكنها فنانة صحافة، وهى ليست كاتبة ولكنها تستخدم الكتابة للحنو على الإنسانية على اتساعها، ولم يكن «عالم اليقين» مجرد كتاب ولكنه ملحمة فى 600 صفحة من القطع الكبير.