نظرة يا رقابة!
نظرة يا رقابة!
مشاهدات: 126
11 ديسمبر 2018

لو أن لي الخيار لطالبت بإلغاء كل إشكال الرقابة اعتمادا على عقل وضمير البشر، فالحلال بين والحرام واضح وضوح الشمس. لا أدري متى ولا كيف قر في وجداني أن الجانب النوراني في البشر قادر على أن يتغلب، وإن طال الأمد ، على نوازع الشر وكل الخبائث والموبقات التي تزينها النفس الأمارة بالسوء وتواريها ببريق مظهري يخفي سوادها وجهامتها المنفرة.

ولكن حيث إن الأيام أثبتت لي خطأ نظريتي وأن ما توهمته يوما عن طبيعة البشر لم يكن سوى حلم رومانسي لا علاقة له بأخلاق البشر الآن والتحولات التي لحقت بهم لأسباب قتلها المفكرون وعلماء الاجتماع بحثا، ولا داعي أن أصدع رؤوسكم بها في هذه السطور، فإنني أحمد الله أن الخيار والقرار ليسا بيدي وأن الأجهزة الرقابية ما يزال لها كيان مادي على الأرض. لكن هل مجرد وجود المسميات والأبنية الفخمة التي تحتلها إدارات تزينها لافتات تحمل حروفا وشعارات تميز تخصصاتها المختلفة كاف لإعلاء الحق وتحقيق العدالة وإنصاف الأغلبية المقهورة التي تدب على الأرض في كل صباح سعيا وراء لقمة عيش باتت عسيرة؟!.. الإجابة بالنفي تصفعنا في كل يوم يحمل لنا المزيد من الانتهاكات لحقوق الناس وللقوانين في ظل وجود مسميات الرقابة دون أن يكون لها وجود فعلي ملموس على أرض الواقع بدءا من مراكز دروس خصوصية ما تزال تعمل رغم كل التصريحات ومخالفات الهدم والبناء في الأحياء، وصولا للتلاعب بمصائر العاملين وعدم التأمين عليهم.

بصوت خافت وكلمات سريعة استجمع شجاعته لينطق بها لسانه، سألني إن كان بوسعي توفير فرصة عمل في أي مكان يضمن فيه تأمينا ومعاشا يحميه ويحمي صغاره من العوز وغدر الزمن إذا ما عجز عن الكسب أو وافته المنية قبل أن يبلغ الأبناء أشدهم. لم أصدق أذني، فمحمد أو «عم محمد» كما يدعوه الشباب العاملون في المبنى، والذي بات أحد معالمه الرئيسية لطول مدة خدمته وحركته الدائمة بين الأدوار ليلبي طلبات الجميع، ليس له من قبل الشركة التي يعمل بها منذ أكثر من عشر سنوات سوي راتبه الشهري غير القابل للزيادة مهما اشتعلت الأسعار! لم يكن ما أرق محمد ودفعه للبحث عن عمل آخر هو قلة الراتب أو الإحساس بعدم الأمان والخوف من أن يتم الاستغناء عن خدماته في لحظة لأي سبب دون الحصول على مكافأة عن سنوات عمله، ولكن كانت خشيته من مجهول يتربص بزوجته وأبنائه إذا ما وصل لسن التقاعد دون أن تقوم الشركة بإدراجه في كشوف التأمينات لتحصل الأسرة على معاش يعينها على مواجهة الحياة.

مع الأسف لم أتمكن من مساعدة محمد سوى بكلمات مواساة معتادة، رد عليها وكأنه يعتذر عن ازعاجي بمشكلته بأنه سيواصل العمل لآخر نفس في عمره، ولكن القلق يساوره على رفيقة عمره التي لا تعمل وصغاره لو أصابه مكروه. لم يدرك محمد أنه بكلماته نكأ جرحا لطالما حاولت التشاغل عنه، فمشكلة محمد باتت أمرا معتادا لكثرة ما تكررت أمامي، بدءا من مشاكل أبناء العائلة وأصدقائهم خريجي الجامعات الذين أوقعهم سوء الحظ في العمل في شركات خاصة ظل أصحابها يماطلونهم في التأمين عليهم لسنوات، ثم تم الاستغناء عنهم واستبدال خريجين جددا بهم لتفادي رفع رواتب استحقوها بعد سنوات خدمتهم (!!) وصولا لإجبار البعض وخصوصا العمالة المساعدة على توقيع أوراق تعيين بدون تاريخ لضمان عدم صرف مستحقاتهم أو مطالبتهم بالتعويض في حالة الاستغناء عنهم أو التعرض لحادث أو الوفاة! وما بين ضياع فرصة الحصول على عمل ثابت مع الوصول لمشارف الأربعين أو تنمية المهارات بسبب ظروف عمل أشبه بالسخرة لساعات ممتدة لا تسمح لهم إلا بالنوم لسويعات ليهبوا من جديد للدوران في طاحونة عمل غير مجدٍ، على أمل أن يصبحوا جزءا من الكيانات التي قامت بجهدهم وعرقهم، وبين حوادث وإصابات لا يحصل ضحاياها على تعويض أو معاش مناسب بسبب عدم إدراجهم في قوائم التأمينات والأوراق المزيفة التي يحتفظ بها بعض من يحملون صفة رجال الأعمال أو أصحاب الشركات الخاصة. تسربت قناعاتي بأن الضمير والمثل العليا والذات العليا في البشر التي تصبو للحق والخير والجمال وحدها كفيلة بأن يأخذ كل ذي حق حقه. والحقيقة أن المُشرع الذي لم يستسلم للأوهام الرومانسية المتعلقة بطبيعة البشر قد سن ترسانة من القوانين الكفيلة بأن تعيد لمحمد وآحمد وآم يوسف وحسام وملايين غيرهم حقوقهم، سواء في التأمين أو الحصول على سلع أسعارها تتناسب مع الدخل أو في حماية الممتلكات أو الذوق العام .. أو.. أو.. لكن المشكلة أن كل هذه القوانين مجرد حبر على ورق ولا يتم تنفيذها لغياب الرقابة الحقيقية!

 ورغم أن الجانب الرومانسي في نفسي ما يزال يلح عليّ مؤكدا أن تفعيل القوانين يتطلب منظومة ثقافية اجتماعية واضحة المفاهيم، يتبناها الأفراد قبل المؤسسات لتؤتي ثمارها على أرض الواقع، فإن حالة السيولة التي بمر بها المجتمع المصري والضبابية التي غيبت الضمير وأفقدتنا في كثير من الأحيان القدرة على التمييز بين الحلال والحرام والقبح والجمال باتتا تفرضان تفعيل القوانين المعطلة والرقابة الحازمة كإجراء عاجل للحافظ على كرامة الإنسان وحقه في الحياة وتأمين حاضره وغده. وإلى حين غلبة الجانب النوراني في النفس البشرية، أو بتعبير أوضح عودة الضمير واستعادة الإحساس بالجمال وقيم المحبة والإخاء والحرص على حقوق الآخر، لا أملك إلا أن أقول «نظرة يا.. رقابة».