هو..
هو..
مشاهدات: 253
9 نوفمبر 2017

اعتاد خط سيره اليومي الذي لم يحد عنه يوما أو  يختصره  كساعي بريد تتراكم المراسيل في حقيبته المتهرئة لحين ميسرة أو  لتوقيت يناسب الحالة الصحية والمزاجية  أو كشاف  نور  بات ظهوره أشبه بليلة العيد وبشارة يتناقلها أبناء الحي  أملا في أن تحد القراءة لعدادات الكهرباء من نزيف فواتير كهرباء تقصم الظهر ولا يسددها ما تبقي من رزق تسرب بفعل الغلاء وجنون دولار ويورو استنزف ما في الجيب إن لم يكن «شفط» الجيب كله!!..

 لم يخلف موعده المعتاد يومًا..   اعتاد سكان الحي الاستيقاظ على صوته. بل اعتبره البعض بديلاً أكثر إثارة من المنبه التقليدي، فلعناته الصباحية تفصح عن المسكوت عنه دون خشية من مساءلة  أو  انفجارات عصبية أو مشاجرات ومشاحنات أو حتى صراعات غير مجدية مع السلطات المختلفة المهيمنة على الحياة المنزلية أو غيرها.. 

كانت كلماته وهمهمته الواضحة أحيانا والغامضة في  أغلب الأحيان  مثار تندر وأحاديث صباحية ساخرة بين شباب الحي،  وأخرى هامسة تتخضب لها وجوه نضرة ما زالت تحتضن حقائب وتلصقها للصدور، خجلاً من أنوثة مبكرة مباغتة تعبث بالأجساد والعقول، أو في إشارة موحية لا تخطئها عيون شباب الحي والأحياء المجاورة..

الموعد لا يتغير أبدًا.. صيفًا أو شتاءً.. نصف ساعة بعد صلاة الفجر، بعدها تنطلق صيحاته وسيل لعناته الذي يتلاشي تدريجيا ليتحول لأنين أو عويل مخنوق..

 في بداية الأمر صاحبت لعناته إيقاعات فتح الشرفات والنوافذ لاستطلاع الأمر، أو لمجرد رؤية الساخط المزمجر الذي تجاسر، بدأ يومه باللعنات بدلاً من «صبحنا وصبح الملك لله».. ولم يكن الأمر يخلو من صيحة مؤنبة يطلقها أحد السكان لتذكير الرجل بالأصول وأن الناس يجب أن تبدأ صباحها «بيا فتاح يا عليم..»

بمرور الوقت أدرك الساخرون والغاضبون أنهم خارج مجال إدراك الرجل، وأنه في ملكوت خاص به، حيث لا يراهم وحيث لا يرون هم ما يراه، فاكتفوا باعتباره منبهًا صباحيًا دقيقًا لا يلبث أن يتلاشى صوته بعد دقائق ليعود مرة ثانية مع الظهيرة، لتبدأ همسات من نوع آخر تنتقل عبر نوافذ المطابخ أو شرفات تتراقص أو تتراكم  ساكنة على مناشرها قطع ملابس انتظارا  لبقعة شمس  أو هبة نسيم لتجف وتعود في سلام لتتراص على أرفف أو تتناثر على أسرة ومقاعد طبقا لأحوال وطبائع مستخدميها.

ما أن أعلنت أحدث الساكنات خوفها من المجنون وخشيتها أن تداهمه نوبة أخطر تدفعه للتحرش بابنتها في طريق عودتها من المدرسة أو الطرق على بابها وهي وحيدة بالمنزل، حتى طمأنتها أقدم الساكنات أنه لن يفعل،  ولتأكيد قولها أتبعت كلمتها بأنه خرج من العباسية بموافقة الأطباء..

 استشعرت الساكنة الجديدة أن خيوط القصة كلها لدى جارتها..

 افتعلت الحاجة لاقتراض أحد مستلزمات الطهي.. 

على باب الجارة لملمت كل الخيوط..

 اكتشف خيانة زوجية بعد العودة من وردية عمل ليلي وصلاة الفجر.. لم يتحمل الصدمة وخانته يداه فلم يثأر.. لم يملك إلا الخروج للطريق صارخًا لاعنًا.. الخائنة خافت على نفسها وأبلغت مستشفى المجانين قبل أن تهجر الحي.. 

عاد بعد سنوات لنفس المسكن ولكن النوبة تعاوده في نفس التوقيت ليصرخ ويلعن، وإن كان أحدًا لا يعرف هل يصب لعناته على رأس الخائنة والخائن أم على نفسه وعلى عجزه ، أم أن الدائرة اتسعت لتشمل آخرين..

***

اختفى.. افتقد سكان الحي إذاعتهم الصباحية والمتحدث بالنيابة عنهم عن المكبوت في الصدور.. تساءلوا عن سر اختفائه وتناقلوا الروايات: صدمته سيارة.. عثر على الخائنة وقتلها.. حمله أهله بعيدًا.. مدعٍ يستدر العطف ليعيش على قفا الآخرين لمجرد التمويه حتى تحين لحظة الثأر... و... و

بعد أيام تلاشت التساؤلات والتخمينات، وعادت عقارب الساعات وأجراسها تؤدي مهمتها بعد خمول وتطايرت عبر النوافذ والشرفات قذائف كلمات مسمومة وشواظ غضب  لم يعد مسكوتا عنه، وكأنما  كانت كلماته ولعناته الطائشة التي لا يدري أحد لمن يوجهها صمام أمان انفجر بعد اختفائه.

***

لا يدري أحد هل كانت دنياه بطول الشارع الذي يقطعه لاعنًا مزمجرًا أم أنها كانت أطول.. لكن المؤكد الآن أنه هناك، في مكان ما حيث تقلصت دنياه فلم تعد مساحتها تزيد عن ثلاث خطوات يقطعها ذهابًا وإيابًا مطأطئ الرأس، محملقًا في الأرض، بينما تقوس أحد كفيه وتحول لشبه مخلب، واعتصر الآخر أصابعه.. ومع كل خطوة يتمتم بكلمات لا يسمعها سواه..